وجدي الأهدل
خرج هيلان لرعي الغنم في الوادي وهو يتواثب فرحاً، لقد أُزيلتْ كافة العقبات، وموعد عرسه على ابنة عمه قد تحدد.. اتفق الكبار على تزويجه ببنت عمه بلا مهر، في مقابل تزويج ابن عمه قاسم بأخته، وبهذه المبادلة يوفر كل طرف أمواله.
وهو يسقي القطيع عند الغيل، ظهر فجأة شيخ وقور، يرتدي معطفاً طويلاً يصل إلى ساقيه وعمامة بيضاء وملحفة منسدلة على كتفيه وحزام عريض تتوسطه توزة – جنبية مائلة- وتفوح منه رائحة الطيب، ودنا من كبش سمين وأخذ يجسُّه.
سأله هيلان متوجساً وهو يسند كفه على مقبض جنبيته: «ماذا تريد يا حاج؟». قال الشيخ وهو يمسح رأس الكبش: «بكم تبيع هذا الطلي؟». لانت ملامح هيلان وأنزل يده عن المقبض: «أبيعه بثلاث ريالات فرانصي». ضحك الشيخ مسروراً: «هاها.. هذا أغلى من الآدمي». توتر هيلان وشعر بالإهانة، لقد ظن أنه يُعرِّضُ به فرد عليه بغلظة: «كلمة.. ثلاث ريالات فرانصي وما دون ذلك أُعطيك بعره». التفت الشيخ جهة اليمين وأومأ برأسه مبتسماً. نظر هيلان حيث نظر الشيخ فلم يُبصر أحدا. تكلم الشيخ بصوت مختلف، صوت جهوري مُفخم: «إن سعره غالٍ جداً، حسناً سأدفع لك المبلغ الذي حددته ولكن بشرط.. أن تذبحه وتسلخه وتقطعه». ازدادت ريبة هيلان في الواقف أمامه فقال وهو يبسط يده: «هات الريالات وسأفعل ما طلبت». أخرج الشيخ من حزامه الريالات الثلاثة وناولها للفتى الذي تألق محياه وتخيل في ومضة خاطفة من الزمن الكسوة التي سيشتريها لعروسه.
استل من سكيناً حادة من خلف غمد جنبيته – إذ لا يُستخدم نصل الجنبية البتة لأغراض دونية- وأضجع الكبش على جنبه وذبحه، وبمهارة أتم سلخه وتقطيعه. تناول الشيخ ملحفته وفرشها على الأرض. غسل هيلان اللحم من الدم ووضعه في الملحفة التي لمَّ الشيخ أطرافها وعقدها، ثم حمل الصرة على ظهره ومضى.
في طريق العودة إلى القرية كان هيلان يفكر في القيام بخطوة جريئة، أن يُلاقي ابنة عمه ويزف لها البشارة، وُيريها القطع الفضية التي جناها من بيع الكبش. كان يتدرب على كلمات الغزل التي سينطق بها، ويشحذ قلبه بالعزيمة للخلاص من الحياء الذي كبله طويلاً. كان يدرك أنه عندما يختلي بها سيضطرب نبضه وتحمر وجنتاه وربما تلحقه بحة في صوته، ولكن أن يمر بهذه التجربة الآن خيرٌ من أن يمر بها ليلة عرسه، حيث يُنتظرُ منه إثبات رجولته، ومنها إظهار دم عذريتها.
تفقد هيلان القطيع وانتبه أن النعجة البيضاء ذات الغرة السوداء غائبة. ارتد إلى الخلف يبحث عنها، ثم تعقب أثر حوافرها، فوجدها في شِعب معزول ترعى وحيدة. ناداها فلم تستجب، زجرها بأحجار لتلحق به فلم تأبه، التقط عوداً من الأرض وهشها فلم تتحرك! رمى العود متبرماً وحملها بيديه، فلما حضنها تبدلتْ في الحال إلى امرأة، فسقطت من بين يديه وقد ثقلت، فوقعت على ظهرها تتوجع. صعقه عريها الذي كان يلمع تحت ضوء الشمس ولم يقدر أن يُحَوِّلَ بصره عنها، وأذهله جمالها الذي لم ير مثيلاً له في حياته أبدا. توسلت إليه وهي تئن أن يُعاين الجرح الذي في ظهرها.. فوقع عليها.
ومنذ تلك الحادثة وهو يزعم أنها تتلبَّسه ليضاجعها. تخلى عن ابنة عمه فتزوجت غيره، وظل يعاني طيلة حياته من نوبات الصرع.
وأما زواج أخته زُهرة بابن عمها قاسم فلم يتأثر، وعُقد قرانهما بعد موسم الحصاد، وما كاد يمر عام حتى أنجبا بكرهما.
بعد أن غدا قاسم أباً، عظُمتْ همته للكسب والتملك، فقرر أن يشتري بقرة. لم يكن يملك ما يكفي من المال لشراء واحدة، وبالتشاور مع زوجته – التي أضحت قيِّمة على بيت أبيها بعد وفاته- قاما بفتح مدافن الحَبْ وإفراغها من مخزونها المدخر للطوارئ. لم يعارضهما هيلان وسكت.
انطلق قاسم إلى سوق الثلوث الأسبوعي وهو يسوق أمامه حماره الذي يكاد يهبط على بطنه من ثقل حمولته.
لم يرغب أحد في قمحه، ففكر في حيلة.. ذهب إلى طرف السوق واكتال بعشر بقش حبوب بُرّ طازجة، وسكبها من أعلى فوق حبوب بُرّه. وأتى إلى السوق الشيبة الذي يرتدي ثياب القضاة راكباً بغلة بيضاء، ووقف أمام مفرش قاسم وقد خطفت بصره حبوب البر اللامعة كاللؤلؤ، فسأل عن سعر القدح، أخبره قاسم وهو يتلعثم من هيبته. لم يُساوم، وطلب شراء قدحين كاملين. حمل قاسم بمساعدة جاره الجوالين ووزانهما على ظهر البغلة، وبعد أن استلم الثمن علق متفكهاً: «إن كنت صاحب سمسرة فهذا يعني أن لديك الكثير من النزلاء!». عض جاره على شفته السفلى إشارة له إلى التحفظ عن قول الكلام الذي لا يليق. ضحك الشيبة من أعماق قلبه ورد عليه: «نعم، وأنت واحد منهم!». ونخس دابته ومضى.
فغر قاسم فاه على اتساعه ولم يفهم نكتته.
لفَّ قاسم مفرشه وركب حماره عائداً إلى قريته، فقد باع بضاعته كلها في صفقة واحدة. بعد أن جاز النقيل وأخذ الطريق بالانحدار، إذا به يرى الشيبة يسد عليه الطريق. دعك عينيه مستغرباً كيف سبقه إلى هذا الموضع وقد رآه اتخذ طريقاً آخر!
خاطبه الشيخ وقد انعقد حاجباه: «أنت غشاش». نزل عن ظهر بغلته وألقى بالجوالين على قارعة الطريق. قال وهو غاضب أشد الغضب: «لا أريدهما».
تكلم قاسم بصوت حاد صفيق: «افعل بهما ما تشاء وأما المال فلن أرده لك». ركب الشيخ بغلته وحاذى حمار قاسم: «والمال أيضاً لا أريده». ثم تابع طريقه صاعداً النقيل.
بعد أشهر وقعتْ له حادثة تشيب منها الرؤوس.. ففي ليلة من الليالي بات كعادته في المحرس ليحرس بستانه، وكان ينام في كيس من قماش، فلما أزف الفجر سمع امرأته زُهرة تناديه، فبرز لها وسأل ما الذي أتى بها في هذا الوقت المبكر، قالت إنها خرجت لتحتطب. دخلت إلى المحرس وهي ترتعد برداً، وطلبت أن تدخل معه في الكيس لتدفأ.. تعريا ودخلا في الكيس وتداعبا.. فانتبه أن رجليها رجلي حمار، وأدرك أن الجنية صَيَاد تسللت إليه في هيأة زوجته مقلدة صوتها! لم يُظهر لصَيَاد أنه قد كشف أمرها، ولكن استأذنها ليُريق الماء، فأفلتته وهي لا تشك بشيء، فلما خرج من الكيس أحكم رباطه، وضربها بالهراوة ضرباً مبرحاً، وما زال يجلدها حتى حلفت له ألا تقربه أو تقرب أحداً من ذريته مدى الدهر، فأطلقها وولت هاربة ولم تعد إليه بعد ذلك أبدا.
ومضت الأيام والسنين وصار قاسم غنياً من كبار ملاك الأراضي، وكثر نسله وارتفع ذكره.
وأما هيلان فصار درويشاً تُنسب إليه نبوءات وكرامات، وعاش حياته غريباً متنقلاً من محل إلى محل حتى وافاه الأجل.