بعد ستة أيام متواصلة من تجدد موجات الاحتجاجات الشعبية على خلفية تحليق سعر الدولار الأميركي في السوق السوداء واختراقه السقوف والخطوط الحمراء المتوهجة، بدا لبنان كأنه اقرب ما يكون من خطر الفوضى الشاملة التي يتسابق المسؤولون والقادة السياسيون على اظهار بلاغاتهم في التحذير منها، فيما ينكشفون اكثر فاكثر امام عجزهم الفاضح أو تبعية بعضهم القاتلة للخارج عن احتواء أسبابها وتداعياتها وأخطارها. والحال ان سباقاً لاهثاً يجري بين التحذيرات من انفجار اجتماعي لم يعد الحديث عنه مجرد اثارة لسيناريو قد يحصل او لا يحصل بعدما تعاقبت طلائعه واقعياً في الأيام الأخيرة واحتمال أسوأ يتمثل في التخوف من اختراقات مشبوهة للتحركات الاحتجاجية ومواجهات متعمدة يراد منها تشويه التعبير عن الغضب العارم الذي يجتاح البلاد وإطلاق رسائل تحمل أهدافاً وخلفيات لجهات سياسية معينة. هذه المعطيات لم تعد مجرد سيناريوات مطروحة في ظل الانسداد السياسي الآخذ في الاشتداد، بل انها ووفق معلومات “النهار” أبلغت الى مراجع سياسية معنية بالازمة السياسية الخانقة على سبيل التحذير مما يطبخ للبلاد على نار الانهيار المالي والانسداد السياسي الذي يحول دون ولادة حكومة انقاذية. وتشير هذه المعطيات الى ان ثمة خطر مواجهات مفتعلة تحت ذرائع بدأت ترمى إعلاميا في اليومين الأخيرين من مثل التهديد بتداعيات خطيرة لقطع بعض الطرق الحساسة وكأن طرق لبنان صارت مصنفة هي الأخرى بين فئات عادية وفئات استثنائية ! وهذا ما استدعى التنبيه الى ان الموجات الاحتجاجية المشروعة قد تغدو عرضة لاستهدافات من جانب افرقاء السلطة وحلفائها نظرا الى ما يشكله الضغط الشعبي التصاعدي، وفي حال استمرار تصاعده في قابل الأيام من تعرية شاملة لبقايا شرعية هذه السلطة التي انهار كل شيء تحت وطأة سياساتها. اما الجانب الاخر من المشهد المازوم المتعلق بتداعيات الازمة المالية فاتخذ بعده الخطير أيضا في ظل الاحتدام الواسع للتحركات الاحتجاجية في عطلة نهاية الأسبوع التي شهدت تصعيدا في قطع الطرق الرئيسية والأوتوسترادات وتكثيف التجمعات الاحتجاجية بعدما سجل سعر الدولار قفزة جديدة جنحت به السبت نحو سقف الـ11 الف ليرة لبنانية ليعود ويتراجع بنسبة ضئيلة.
وما زاد المشهد قتامة ان المعطيات الجدية حول الواقع السياسي المتصل بالازمة الحكومية عكست مزيدا من الاتجاهات التصعيدية سواء في الهجوم العنيف الذي شنه “التيار الوطني الحر” السبت على رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري او عبر الإعلان المفاجئ لرئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب عن اتجاهه الى الاعتكاف كوسيلة ضاغطة لاستعجال تشكيل حكومة جديدة.
مؤشرات الانسداد
وتشير آخر المعطيات في هذا السياق إلى أنّ حراك المبادرة الوسيطة الأخيرة، لم يبلغ حدود التواصل الشخصي بين الرئاستين الاولى والثالثة؛ ولا يزال “بيت الوسط” بانتظار أي تواصل معه من جانب بعبدا ليُبنى على الشيء مقتضاه باعتبار أن التجارب السابقة التي شهدها، لم تكن مشجّعة لجهة تقريب المسافات بين الرئاستين ولم تسفر عن بحث جديّ في عناوين المخارج الفعلية. ولا يبدو أن الحراك الحكومي المستجد سيصل إلى خواتيمه هذه المرة أيضا لأن التفاهم على حقيبتي الداخلية والعدل لا يزال مُعلّقاً، مع إشارة المقرّبين من الرئيس المكلّف إلى وصول معطيات إليهم تشير إلى سير فريق العهد بصيغة (5+1) في حكومة 18 وزيراً؛ لكن علامات الاستفهام لا تزال قائمة حول موضوع وزارة الداخلية تحديداً التي يريد الرئيس المكلف إسنادها إلى شخصيّة مستقلّة تماماً بالتوافق مع رئيس الجمهورية، وهذا الموضوع لم يتمّ التوصل إلى خواتيمه حتى الآن.
وبرز تطوران في هذا السياق لم يكونا ، وفق معلومات “النهار” ، بعيدين عن أجواء التأزم الحكومي واستبعاد أي اختراق إيجابي في تبديد التصعيد الحاد الذي حاصر الازمة بمزيد من الاحتدام في الأيام الأخيرة .
ذلك ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بدأ يركز حديثا على تفعيل حكومة تصريف الاعمال وقال امس في هذا الصدد “في غياب الحكومة الجديدة نتيجة حسابات خاطئة لا بد من تفعيل حكومة تصريف الاعمال فوق الخلافات السياسية والسجالات السياسية”.
وفي سياق اخر أفادت معلومات أنّ لقاءً مطوّلاً عُقد مساء السبت في معراب بين رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع والسفير السعودي في لبنان وليد البخاري، وشارك في اللقاء، الذي تخلله عشاء، النائبان ستريدا جعجع وبيار بو عاصي. وتركزالبحث على جوانب الأزمة الحالية في لبنان بحيث لا تبدو معالم إيجابية حيال الازمة الحكومية.
اعتكاف دياب
وأمام ازمة التأليف المستعصية على كل التسويات الداخلية، رمى رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب السبت قنبلة الاعتكاف مهدداً بتفجيرها، علما ان الدستور ينص على الاستقالة وتصريف الاعمال ويمنع عليه الاعتكاف بل يضعه امام المساءلة بسبب الاخلال بالواجبات الوظيفية ، وفق لمادة 70 المتعلقة بمحاكمة رؤساء الحكومة والوزراء.
وفي المعطيات، ان الرئيس دياب وامام الضغط الذي يمارس عليه من عدد من الوزراء داخل الحكومة ومن خارجها من آجل تفعيل عمل مجلس الوزراء ورداً على كل الحملات التي تحمّله مسؤولية وقف عمل الدولة من فريق العهد الى قوى سياسية اخرى، ردٌ بالتهديد بالاعتكاف، وهو لن يقدم عليه بالاصل، الا انه يريد ان يتحمّل الجميع المسؤولية أمام الازمة المتفاقمة، بدلاً من رميها على حكومة مستقيلة اخرجت من المسؤولية بعد كارثة المرفأ.
وبحسب المراقبين ، فإن الرئيس دياب يرفض اتخاذ اي قرار بوقف الدعم او ترشيده، وتحسباً لفترة اجتماعية صعبة يقبل عليها البلد ولا يريد لحكومته ان تتحملها وحدها، لاسيما مع الانخفاض التلقائي التدريجي لهذا الدعم، والذي قد يؤدي الى ارتفاع جنوني في الاسعار وغضب في الشارع.
البعض رأى في الخطوة انها استعراضية قد تنتهي كما انتهت خطوته السابقة في لحظتها عندما جال على الرؤساء داعياً الى الاسراع بتشكيل الحكومة. اما اذا تحول التهديد الى خطوة عملية فنتائجها قد تكون سلبية بشل ادارات الدولة ووقف شؤون المواطنين لاسيما وان توقيعه ملزم على كل مرسوم وقرار اياً كان نوعه.
وفق المراقبين، ان خطورة تهديد دياب فيما لو نفذه تكمن بتجميد كل شؤون الدولة ويشل عمل اللجان والوزارات وبمتابعة اجراءات ازمة كورونا، ويضع رئيس الجمهورية في موقع الاستفراد والاستهداف بحيث يصبح غير قادر على اي تحرك من خارج المؤسسة التنفيذية من دون رئيس حكومة يصرف الاعمال.
من هنا، ينظر المطلعون الى موقف دياب على انه جرس انذار وقد لا يستخدمه .
الراعي
وسط هذه الأجواء عاود امس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي اطلاق المواقف النارية بحق المسؤولين. وإعتبر “ان ما يجري على صعيد تأليف الحكومة لا علاقة له بالمواد الدستورية، خصوصا المادتين 53 و 64 المتعلقتين بطريقة التكليف والتشكيل والتوقيع، بل العلاقة بهوية لبنان الواحد والموحد والحيادي والديمقراطي والميثاقي وذي السيادة في الداخل وتجاه الخارج، وبالثقة المتبادلة التي هي روح الميثاق الوطني والتعاون في الحكم والإدارة ، وإلا لم هذا التأخير المتعمد في تأليف الحكومة؟ “. وقال “تصالحوا أيها المسؤولون مع السياسة، ومع الشعب الذي بددتم ماله وآماله ورميتموه في حالة الفقر والجوع والبطالة. وهي حالة لا دين لها ولا طائفة ولا حزب ولا منطقة، ولم يعد له سوى الشارع. فنزل يطالب بحقوقه، التي تستحق أن يدافع عنها وأن توضع في رأس معايير تأليف الحكومة… وبعد، هناك من يتساءل لماذا ينفجر الشعب؟ من وراءه؟! فخير أن ينفجر الشعب ويبقى الوطن من أن ينفجر الوطن ولا يبقى الشعب”.