ذوالفقار قبيسي – اللواء
بعبارات بسيطة، بلد يخرج منه كل يوم كم من الدولارات أكثر بكثير مما يدخل إليه، يصيبه حتما عجز هائل في الدولار، كما كرة من نار فوق ليرة يستنزفها الارتفاع الهائل في النقد المتداول وتقلّص التحويلات وجفاف الاستثمارات والادخارات والاحتياطيات وعجز الموازنات وموازين التجارة والمدفوعات، وتهريب الودائع الى الخارج بدلا من هروبها الى الداخل. في وضع تراجعت الودائع خلاله في عام واحد ٢١% والتسليفات ٣٢% وارتفعت الدولرة من ٧٦% الى أكثر من ٨٠%!
ولا جواب حتى الآن..
لا عن حكومة تولد من رحم الأحزان توقف انهيار الاقتصاد والأمن وتحدّ من البطالة والغلاء وجموح الفقر والجوع، ولا عن مفاوضات نقدية تعيد هيكلة القطاعات المالية والمصرفية والإدارية وتنعش الثقة المحلية والخارجية والاغترابية.
وحتى بوجود هكذا حكومة تعيد الى الحكم قوته وهيبته، هناك حاجة موازية الى تفعيل دور «حوكمة» سلطة نقدية أعطيت في الاقتصاد الحديث استقلالية واسعة عن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لا سيما في بلد يغلب على اقتصاده الطابع المصرفي مثل اقتصاد لبنان الذي لا يمكنه حل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، من موارد طبيعية مثل البترول أو المعادن الغالية الثمن، أو الموارد المالية من صادرات صناعية ضمرت الى حدود الـ٢ مليار دولار وزراعية تهاوت الى ١٠٠ مليون دولار!
وحتى في دول ذات صناعات كبرى حوّلت «الحوكمة النقدية» بلدا مثل ألمانيا بعد هزيمتي الحربين الأولى والثانية من خراب الحرب الى أكبر قوة اقتصادية في أوروبا. كما في دول ذات صناعات متوسطة مثل الأرجنتين التي بعدما بلغت شفير الإفلاس وعدم القدرة على سداد الديون، وتراجع المنافسة في الصادرات وشلل السياحة بسبب الغلاء، أمكن بسياسة نقدية جريئة وفاعلة إعادة قوتها الاقتصادية والتصديرية لا سيما للمنتجات الرئيسية مثل اللحوم والحبوب وسواها، ما أعطى للسلطة السياسية تأييدا شعبيا كاسحا لدرجة انه بعد وفاة الرئيس «كيرشنر» انتخبت زوجته رئيسة للجمهورية. أو كما في الأزمة الأميركية الجنوبية التي أصابت الى جانب الأرجنتين، البرازيل والأكوادور والمكسيك والأرغواي، أو الآسيوية خلال التسعينيات في أندونيسيا وتايلند وماليزيا وكوريا أو خلال الأزمة الايرلندية، وصولا الى أزمة الـ٢٠٠٨ – ٢٠٠٩ في الولايات المتحدة وأوروبا.
وخلال كل هذه الأزمات كانت السياسة النقدية هي الحكم للخصم والدواء للداء وعلى ممارساتها السابقة وعلاجاتها اللاحقة يتوقف الى حد بعيد مصير بلد الى درجة قول شهير للينين «إذا أردت أن تخرب بلدا خرّب عملته» ولـ «جاليمار شاخت»: «ان فكرة النقد هي فكرة الوطن»!
وكما في أي بلد في العالم، لا مجال لأي حلول اقتصادية واجتماعية دون سلطة نقدية لا بد في لبنان من إعادة ترميمها وهيكلتها مع قطاع مصرفي انتاجي – إنمائي وضمن خطة واقعية وعملية في ضوء دروس التجارب الحالية الجديدة والمستجدّة. ولمعرفة طبيعة وخطورة مهام ومسؤوليات أي سلطة نقدية لأي مصرف مركزي في العالم، خصوصا في بلد مثل لبنان قطاع المصارف فيه المصدر الرئيسي لتمويل اقتصاده، لا بد من معرفة الدور المثلث الأبعاد لأي مصرف مركزي في العالم:
١- استقرار النقد.
٢- تحقيق النمو المستدام.
٣- توفير فرص العمل.
وكلها باتت في المحنة المصرفية – المالية – الاقتصادية التي يعانيها لبنان مجهولة المصير حتى الآن…