خسائر الاقتصاد اللبناني كبيرة وتتخطّى المنطق والعقل، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مُباشر. الشق المباشر مُرتبط بالدرجة الأساسية بالتبادل التجاري (الشرعي وغير الشرعي) وبالمالية العامّة التي تضرب الليرة اللبنانية بالصميم! الشق غير المُباشر هو المُرتبط بالدرجة الأساسية بغياب الفرص الاقتصادية ولكن أيضًا بعدمّ فعّالية عمل الماكينة الاقتصادية. وهذه النقطة بالتحديد هي موضوع هذا المقال حيث سنُظهر مدّى فداحة هذه الخسائر والتي تضّرب الهيكلية الإجتماعية في لبنان.
النظرية الاقتصادية تُعرّف ظاهرة «خسائر المكاسب القصوى» على أنّها الخسارة الناتجة عن فقدان الكفاءة الاقتصادية والتي تتمثّل بعدمّ إنتاج الكمّية التي تُحاكي الحاجة الاجتماعية للسلع والخدمات. وتعود أسباب إنخفاض الكفاءة الاقتصادية لعوامل عديدة، منها الإحتكار، التعلّق بالخارج، العوامل السياسية، الضرائب، إنهيار العملة، الحد الأدنى للأجور، الإعانات، الدعم… وغيرها.
ويأتي الإحتكار على رأس هذه اللائحة كأول أسباب غياب الكفاءة الإقتصادية، حيث إن الأسعار الإحتكارية الناتجة عن الندّرة المُصطنعة تجّعل الاقتصاد يفقد الكثير من الفرص الإنتاجية وبالتالي الوظائف من خلال خفض مُصطنع للاستهلاك وارتفاع بالأسعار غير مرتبط مباشرة بالطلب، بل مصطنع أو بكلمة أدق إرتفاع مقصود طلباً لربح استنسابي.
إن تقدير هذه الخسارة، يُسمّى بمثلّث Harberger الذي ومن خلال العرض والطلب، يُحدّد المنطقة التي هي عبارة عن مُثلّث محصور بين العرض من دون ضرائب، العرض مع ضرائب، والطلب (أنظر إلى الرسم). وتأتي الخسارة من ارتفاع الأسعار الذي يؤدّي بدوره إلى فقدان في القدرة الشرائية التي تؤدّي بدورها إلى خفض الكميات المُستهلكة مع ما لها من تداعيات إجتماعية وإقتصادية.
وعلى الرغم من ربط «ارنولد هاربرجر» هذه الخسارة بتدخل الحكومة في سوق مثالي من ناحية فرض ضرائب أو حدود دنيا أو قُصوى لبعض الأسعار أو الكلّفة، إلا أن عدمّ وجود سوق مثالي يُسبّب نفس الخسائر نظرًا إلى أن القيود على السعر يُصبح رهينة اللاعبين الإقتصاديين وعلى رأسهم المُحتكرون. فالإحتكار يُؤدّي إلى ظاهرة شبيهة بظاهرة الضرائب حيث يلعب المُحتكرون دور «جابي الضرائب» – ولكن لجيوبهم الخاصة – وهو ما يخلّق خلالا في آلية السوق.
عبثية التجّار
عبثية التُجّار في لبنان مبنية على حصد الكّم الأكبر من الأرباح وذلك عبر عدّة طرق:
اولاً – إستخدام سعر صرف الدولار في السوق السوداء كحجّة أساسية في رفع الأسعار مع إحتفاظهم بمركز إحتكاري غير موجود في العالم إلا في بعض الدول المتخلفة اقتصاديا المُشابهة للبنان. وهذا الأمر يجعل من هيكلية الأسعار في ارتفاع مُزمن، إذ يكفي ملاحظة أرقام أسعار السلع الأساسية الصادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة لمعرفة أن الأسعار ترتفع ولا تنخفض وهذا الأمر نتاج الإحتكارالذي ذمته الشرائع السماوية كافة لمخالفته محاسن الأخلاق واعتبرته من قبيل أكل المال بالباطل.
ثانياً – تهريب السلع والبضائع المدفوعة بدولارات من مصرف لبنان على السعر الرسمي وعلى سعر المنصّة الإلكترونية إلى دول أخرى مثل سوريا، تركيا، الكويت، غانا، السويد…! ولعل الفيديو الذي تمّ تداوله البارحة على وسائل التواصل الاجتماعي والذي يُظهر أكياس رزّ مكتوب عليها أنها مدعومة من الدولة اللبنانية (بسعر 13 ألف ليرة) تُباع في متاجر في السويد!!!
ثالثاً – يعرف التجّار مُسبقًا أن هناك كتلة نقدية موجودة بين أيدي المواطنين، وبالتالي يسعون إلى سحب هذه الكتلة من خلال رفع الأسعار بشكل غير إقتصادي أو مالي. فالعديد من السوبرماركات تمتنع عن بيع المواد والسلع المدعومة الموجودة في مخازنها في السوق المحلّي.
رابعًا – يقوم التجّار من خلال عمليات الإستيراد والتصدير إلى إخراج دولاراتهم من لبنان! هذا الأمر يتمّ من خلال التهريب ولكن أيضًا من خلال عدم إعادة الدولارات التي تخرج من لبنان إلى القطاع المصرفي!
خامساً – يعلم التجار أن الأجهزة الرقابية غائبة (في أحسن الأحوال) أو مُتواطئة (في غالب الأحوال)، وبالتالي يذهبون بعيدًا في إستراتيجيتهم عبر الإمعان في رفع الأسعار والتهريب مع ما لها من تداعيات كارثية إقتصاديًا وإجتماعيًا ونقديًا.
على هذا الصعيد، يجب معرفة أن ثبات الأسعار هو عنصر أساسي من عناصر الأمن الاجتماعي والإقتصادي. فإرتفاع الأسعار المُستمرّ يضرب عمل الماكينة الاقتصادية ويُفقد اللاعبين الإقتصاديين الثقة بها. فكيف لموظّف أن يُحافظ على وتيرة ثابتة من الإستهلاك مع ارتفاع الأسعار وفقدان قيمة مداخيله؟ وكيف لشركة أن تُحافظ على مستوى مبيعات مقبول لتغطية الكلفة والإستثمارات؟ ناهيك عن أن التضخّم وإذا ما وصل إلى مستويات عالية يضرب الاقتصاد بطريقة لن يخرج منها سالمًا لعقود طويلة!
هذه العقود الطويلة من المعاناة المتوقعة للشعب اللبناني لن يتمكن متسببوها من الهروب منها كما يظنون، فسيبقى ظلمهم يظلل خطاهم وسط دمار الوطن بأيديهم الخائنة المتخاذلة.
حكومة دياب والإعتكاف المصطنع
في هذا الوقت، تعتكف حكومة الرئيس حسان دياب، المعتكفة أصلاً، عن القيام بمسؤولياتها تجاه الشعب من خلال التقاعص عن القيام بالإجراءات اللازمة لضبط الفوضى الحاصلة وتنظيم عمل الماكينة الاقتصادية خصوصًا أن الدستور أعطى الحكومة حصرية القرار الاقتصادي والمالي! هذا القول لا يحمل أية خلفيات سياسية بل صرخة وطنية نابعة من حقيقة أن لا قدرة لأحد على وقف التهريب أو ضبط الأسعار إلا الحكومة اللبنانية.
لذا أصبح من شروط بقاء وجود الكيان اللبناني أن تعمد حكومة الرئيس حسان دياب المستقيلة بعملية ضبط للعبة الاقتصادية والمالية والنقدية من خلال الإجـــراءات التالية:
أولاً – وقف التلاعب بسعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية. وهذا الأمر يفرض منع السوق السوداء وتحويلها إلى سوق الصيرفة الرسمي.
ثانياً – وقف التطبيقات التي تبث سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
ثالثاً – البدء بعمليات إصلاحية تطال القطاع العام بما يسمح لها القانون خصوصًا من ناحية إعادة هيكلة هذا القطاع ومحاربة الفساد فيه.
رابعاً – لجم الإنفاق العام الذي لا يُمكن أن يستمر على هذا المُستوى في حين أن المواطن يُعاني من التقشّف المفروض عليه من خلال لعبة الدولار التي ستهزّ عروش المسؤولين عاجلا أم آجلاً.
خامساً – وقف عمليات التهريب عبر الحدود البرّية، والبحرية، والجوّية ومُلاحقة كل المُهربين مهما كان حجم الخطّ الأحمر الوهمي والسياسي والطائفي المرسوم حوّلهم.
سادساً – إستعادة الأملاك النهرية والبحرية المُصادرة من أصحاب النفوذ ووضعها في خدّمة القطاع الخاص (من دون حقّ التملّك) وذلك بهدف جعل الإنتاج الزراعي والصناعي يُلبّي قسما كبيرا من حاجة السوق اللبناني من المواد الغذائية والأساسية (أكثر من 80%) على مدى الأعوام المقبلة.
سابعاً – البدء بتطبيق الإصلاحات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي وذلك لربح الوقت قبل تشكيل الحكومة الجديدة.
لعل قيام الحكومة بما ذكر، ولو جاء متأخراً، فإنه سيحفظ لها شيئاً من الإيجابية، ويكتب لها إنجازاً معتبراً بعد أن مضت بالتنقل من إخفاق إلى إخفاق، وهذا ما سيذكره التاريخ على مدى طويل من الزمن، وعندها لا ينفعهم الندم.
الدولار وفوضى الأسعار
الدولار في السوق السوداء يبعث الفوضى في حياة اللبنانيين مع تقلبات لا يُمكن تفسيرها من خلال منطق إقتصادي فقط! فطرح مشروع قانون لدفع غلاء معيشة على فترة ستّة أشهر بكلفة 800 مليار ليرة لبنانية من دون تأمين تمويل لها، وطرح مشروع قانون سلفة لشركة كهرباء لبنان من دون تأمين تمويل لها أيضًا، سيؤدي حتما إلى أن يعمد مصرف لبنان إلى طبع العملة على الرغم من وصول الكتلة النقدية (بالليرة اللبنانية) إلى مستويات تاريخية، فقد أدى رفع الكتلة النقدية بأكثر من عشرة تريليون ليرة إلى تأجج منسوب المخاوف مما خلق هلعاً لدى العامة والخاصة.
إضافة إلى ذلك، زادت عملية التهريب من لبنان للسلع والبضائع المدعومة بشكل كبير خلال المرحلة الماضية، إذ يقوم التجار بالمحافظة على دولاراتهم في الخارج وبالتالي ازدادت وتيرة إستنزاف الدولارات في مصرف لبنان الذي قام بعملية رفض لبعض العمليات مما دفع بالتجار إلى تهديد المواطنين بقطع السلع عن السوق!
أمام هذا العبث كله إكتملت حلقات الجنون والظلم والانهيار ببروز عملية المزايدة السياسية بين القوى على تشكيل حكومة وهو ما دفع بالبعض إلى المراهنة على طول الأزمة وبالتالي تأخير المساعدات الخارجية ومن ثَمّ َزيادة طبع وطبع وطبع… العملة المجروحة.