14 ملياراً و274 مليون دولار أميركي، هي قيمة التراجع بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان سنة 2020، دُفع منها فقط 6 مليارات و400 مليون دولار لدعم استيراد المواد الرئيسية. أما الـ 7 مليارات و874 مليون دولار المتبقية، فقد «أهدرها» مصرف لبنان على مدفوعات لا يستفيد منها الاقتصاد المحلّي. الجزء الأكبر من هذه الدولارات، ومصدرها حسابات المودعين، حُوّل إلى الخارج لمصلحة زمرة «حزب المصرف». الثغرة الرئيسية في ما يجري، سببها غياب قانون لتقييد التحويلات يمنع «تبذير» الدولارات المُتبقية، فيما تستمر المصارف في ممارسة التشبيح على صغار المودعين
في بلدٍ يُعدّ فيه الدولار «عملته الرئيسية»، يتحوّل النقص في الأوراق الخضراء إلى أزمة كُبرى. الأفراد يُصابون بهلع، ويهرعون إلى استبدال الليرة اللبنانية بالدولارات بحثاً عن «ثقة». أما السلطتان السياسية والنقدية (مصرف لبنان)، فيُنتظر منهما ــــ منطقياً ــــ أن تضعا خطّة لإدارة فترة الطوارئ، عبر توزيع ما تبقّى من دولارات لديها بطريقة استراتيجية حسب الأولويات الاجتماعية ــــ الاقتصادية للمجتمع. لكن… العكس هو ما حصل، حين قرّر المسؤولون في الدولة اللبنانية أن يُطلقوا النار على أرجل السكّان والاقتصاد، عبر تبذير الدولارات. منذ آب 2020، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يُوفّر مُناسبةً إلّا يُهدّد فيها بالتوقف عن دعم استيراد المحروقات والقمح والدواء وبعض المواد الغذائية، لأنّه لم يعد في حوزته ما يكفي من دولارات، وبسبب «حرصه» على عدم المسّ بما يُسمّيه «حساب الاحتياطي الإلزامي» (يُعلن سلامة أنّه أصبح ما بين الـ 15 والـ 16 مليار دولار، لكن هناك شكوك عدّة حول الرقم الذي يرفض سلامة أن يُطلع أحداً رسمياً عليه). حجّة حاكم «المركزي» لتقديس «الاحتياطي» أنّه مُلك للمودعين، وبالتالي لا يجوز التصرّف به، هو الذي تعاون مع المصارف على إهدار ودائع بقيمة تبلغ 120 مليار دولار أميركي، ثمّ صحا على «حماية 15 مليار دولار». لكنّ مصرف لبنان لا يجد حرجاً في الوقت نفسه من زيادة تحويلاته إلى الخارج بالدولار الأميركي بما يفوق المبلغ المُخصّص لهذه الاحتياجات الرئيسية. أكثر من 7 مليارات دولار أميركي، حُوّلت من مصرف لبنان إلى الخارج لم يُشترَ بها مازوت وبنزين وقمح ودواء… بل إنّ القسم الأكبر من دولارات المودعين لدى «المركزي» حُوّل إلى حسابات بعض المحظيين.
تُشير أرقام وزارة المالية (منشورة على موقعها الإلكتروني) إلى أنّ إجمالي الاستيراد بلغ بين كانون الثاني 2020 وتشرين الثاني 2020، 10 مليارات و78 مليون دولار أميركي. وقد انخفض الاستيراد بشكل عام، بنسبة 42.1% مقارنةً بين كانون الثاني وتشرين الثاني 2020 والفترة نفسها من عام 2019. التقديرات تُشير إلى أنّ كلفة الاستيراد ارتفعت في نهاية العام الماضي إلى ما يُقارب الـ 11 ملياراً ونصف مليار دولار أميركي، وفق الإحصاءات غير الرسمية. من ضمن إجمالي كلفة الاستيراد، تندرج قيمة دعم استيراد المحروقات ــــ القمح ــــ الدواء ــــ المواد الغذائية، والتي بلغت بحسب اللجنة المُكلفة بحث مُستقبل «الدعم»، 6 مليارات و400 مليون دولار العام الماضي. يبقى 5 مليارات و100 مليون دولار (من أصل الـ 11 ملياراً ونصف مليار دولار) استُخدمت أيضاً لتمويل الاستيراد. من أين دُفعت؟ أتى بها التجّار من السوق، حين فرض عليهم مصرف لبنان والمصارف الإتيان بـ«الدولارات الطازجة» لفتح حسابات تجارية.
المسؤوليّة الكبرى تتحمّلها السياسة النقدية، وضعف سياسة الدولة، وغياب الرقابة
في المقابل، يُظهر حساب «التغيّرات في صافي الأصول الأجنبية للقطاع المالي»، تراجعاً بقيمة 14 ملياراً و274 مليون دولار أميركي لدى مصرف لبنان في سنة 2020. يقود ذلك إلى أنّ «المركزي» الذي دفع 6 مليارات و400 مليون دولار لتمويل استيراد مواد رئيسية، «تبخّرت» من حساباته خلال الفترة ذاتها، 7 مليارات و874 مليون دولار أميركي إضافية. هذا «النقص» المُسجّل في أرقام مصرف لبنان الرسمية، لم يُستخدم للاستيراد أو لخدمة الاقتصاد المحلّي، ولا تُعرف وُجهته الحقيقية. من اللافت أنّه خلال العام الذي شهد انهيار النموذج الاقتصادي، ودخل فيه لبنان أسوأ أزمة مالية ونقدية واقتصادية في تاريخه، استمر مصرف لبنان في رعاية حركة التحويلات الأجنبية كما لو أنّ البلاد لا تزال بألف خير، أو كأنّه قادرٌ على تعويض الخسائر بالدولارات.
أين صُرفت الـ 7 مليارات و874 مليون دولار؟ «الاحتمالات عديدة»، يجيب خبيرٌ مالي:
ــــ التزامات خارجية على الدولة، كعقود صيانة مثلاً. لكن هذه المصاريف، في الحدّ الأقصى، لا تصل إلى 500 مليون دولار أميركي؛
ــــ تحويلات من حسابات لدى المصارف اللبنانية إلى حسابات في الخارج؛
ــــ تسديد ودائع ائتمانية وودائع للقطاع الخاص غير المُقيم (أي تحويلات إلى الخارج).
ما هي الودائع الائتمانيّة؟ يقصد أحد الأشخاص اللبنانيين مصرفاً في سويسراً طالباً فتح حساب بمليون دولار. تُقبل الوديعة من دون إدراجها في ميزانية المصرف، حتى لا تُشكّل أعباءً إضافية على الاقتصاد، ولكن يتم الاتفاق بين الزبون والمصرف على إعادة توظيفها في أدوات مالية مختلفة. ما حصل مع سياسيين ورجال أعمال لبنانيين، أنّهم اتفقوا مع مصارف أجنبية ــــ وتحديداً في سويسرا ــــ على إعادة توظيف هذه الودائع لدى المصارف اللبنانية ليستفيدوا من الفوائد المرتفعة التي كانت تُدفع على ودائع الدولار. اللافت في الودائع الائتمانية أنّ هوية الزبون تبقى سرّية، وتُحصر العلاقة بين المصرفين. مثلاً يعرف المصرف اللبناني أنّه استقبل وديعة من المصرف السويسري، من دون أن يُدرك وجود طرف ثالث هو شخص لبناني. يُخبر الخبير المالي أنّه في بداية الأزمة «ضغط هؤلاء لتحويل ودائعهم من لبنان إلى حساباتهم في سويسرا، تحت حجّة أنّ رفض التحويل سيؤدي إلى رفع دعاوى إفلاس ضدّ المصارف اللبنانية». وبحسب الوزير السابق منصور بطيش، بلغت قيمة هذه التحويلات 5 مليارات دولار، «هي غير الـ 6 مليارات دولار التي حُوّلت إلى الخارج بين 19 تشرين الأول و28 كانون الأول 2019، وتحدّث عنها في حينه المدير العام السابق لوزارة المالية، آلان بيفاني». بطيش يشكو أيضاً آلية الدعم بشكلها الحالي، لأنها «لا تحقّق الهدف الرئيسي منها، أي دعم الأسر الفقيرة، ونحن مع أن يكون الدعم مُباشراً للأسر عبر تقديمات مُباشرة، لا تُكلّف سنوياً أكثر من مليارَي دولار. لكن مصرف لبنان الذي يشنّ معركة ضدّ الدعم، بذريعة كلفته المرتفعة، يُحوّل أكثر من تلك الكلفة بكثير إلى الخارج».
من يُراقب هذه التحويلات؟ يوضح بطيش أنّ المسؤولية في هذا الملفّ «لا تقع حصراً على المصارف، بل المسؤولية الكبرى تتحمّلها السياسات النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان، وضعف السياسة العامة للدولة، وغياب الدور الرقابي»، مؤكّداً أنّ «مصدر كلّ الأرقام هو مصرف لبنان. كيف يتمكّن من إصدار أرقام ميزان المدفوعات دورياً، ويُحدّد الأموال التي دخلت إلى البلد وتلك التي خرجت منه؟ لكن في لبنان تحوّلت السرية المصرفية فقط إلى ذريعة للتهرّب الضريبي».
تسلّط أرقام التحويلات الضوء مُجدّداً على أهمية الإسراع في إقرار قانون القيود على التحويلات المالية، والحاجة إليه «أكثر ممّا كانت في تشرين الأول 2019. بعدم صدور الكابيتال كونترول، هُرّب خارج البلد أكثر من 12 مليار دولار منذ اندلاع الانتفاضة». يقول بطيش إنّ «المُجرمين القيّمين على الشأن العام طيّروا الكابيتال كونترول حتى يستمر تهريب الأموال».
المصارف «تهرّب» أيضاً
أرقام الأموال «المهرّبة» التي تَظهر في ما ينشره مصرف لبنان، لا تشمل ما تتولى المصارف «تهريبه» أيضاً. ورغم أن صافي موجوداتها من العملات الأجنبية سجّل ارتفاعاً عام 2020، بحسب ما ينشره مصرف لبنان، فإنّ ذلك لا يعني أنها لم تُحوّل مبالغ إلى الخارج، وفقاً لمشيئة أصحابها ومصرف لبنان وشركائهم ورعاتهم. ويذكّر خبراء وعاملون في القطاع المصرفي بأنه في غياب قانون القيود على التحويلات («كابيتال كونترول»)، لا يوجد ما يمنع المصارف من إجراء التحويلات إلى الخارج. وهذه المصارف لا تجد أي حرج في المطالبة، علناً، بتحويل أموال إلى الخارج. ففي كتاب أرسلته إلى مصرف لبنان، أمس، طالبت بتحويل الأموال التي تفيض عن «الاحتياطي الإلزامي» في مصرف لبنان، إلى حساباتها في الخارج. البنوك التي بدّدت عشرات المليارات من أموال المودعين، نتيجة سوء أمانتها وحصرها أكثر من ثلثَي عملها ــــ على مدى السنوات السابقة للانهيار ــــ بإيداع الأموال في مصرف لبنان (طمعاً بفوائده المرتفعة)، وضعت طلبها الجديد في إطار الحرص على أموال المودعين!