الجمعة, نوفمبر 22
Banner

أي «لقاح» أو «ترياق» لإنقاذ العالم من «الوباء الاقتصادي»؟

انطوان الحاج – الشرق الأوسط

تسير جائحة كورونا بتداعياتها الصحية جنباً إلى جنب مع أزمة اقتصادية عالمية تتشعب آثارها وتضرب بعمق في كل أصقاع الأرض. ولعلّ أبرز ما يستوقف الناظر في الاضطراب الاقتصادي، أن التعافي الموعود لا يبدو أنه سيتحقق دفعة واحدة، بل بسرعات مختلفة باختلاف قدرات الدول، تماماً مثل وتيرة عمليات التلقيح التي تعتبر الحل الوحيد لردّ القسط الكافي من أضرار الوباء والتي تتدرج بين السريع والبالغ البطء. والحقيقة أن التفاوت في التعافي الاقتصادي والتعافي الصحي سيضرب الإثنين إذا لم يصحَّح.

في تصريح حديث، لفتت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا إلى وجود تحسن في آفاق الاقتصاد العالمي بفضل خطط التحفيز وحملات التلقيح، لكنها حذرت من مضار حصول انتعاش غير متكافئ بين الدول. وقالت: «نتوقع تسارعا جديدا» للنشاط الاقتصادي، منبّهةً في المقابل إلى أن «عدم اليقين لا يزال كبيراً للغاية» وإلى وجود «انتعاش متفاوت السرعة» تشكل فيه الولايات المتحدة والصين محرك النمو العالمي، فيما تتخلف عنه الدول النامية.

هنا يبرز دور الولايات المتحدة باعتبارها رافعة للاقتصاد العالمي، وتبرز مسؤوليتها في مدّ اليد للدول الناشئة والفقيرة لكي يتعمم الانتعاش ويستعيد الاقتصاد توازنه. وإذا كانت إدارة الرئيس جو بايدن تتمنى وتستعد لإعلان الانتصار على الانتشار الوبائي لفيروس كورونا في الصيف المقبل، فإنها تعلم تمام العلم أن هذا الهدف لا يزال بعيد المنال لكثير من الدول.

وبما أن فيروس كورونا لا ينفك يتحور، فإنه سيعرّض الجميع للخطر ما دام متفشياً في بقعة واحدة من العالم. لذلك من الضروري توزيع اللقاحات ومعدات الحماية الشخصية والعلاجات في كل مكان في أسرع وقت ممكن، لكي يمكن التحدث عن تحصين صحي ومن ثم تعافٍ اقتصادي.

*الواقع الاقتصادي

باستثناء شركات الصناعات الدوائية العملاقة التي تصنع لقاحات ولوازم طبية أخرى وبعض الشركات التي تعنى بالتجارة الإلكترونية وتسليم السلع، يمكن الجزم بأن كل القطاعات الاقتصادية تئنّ وتنكمش.

تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن الناتج الإجمالي العالمي تراجع بنسبة 3.4 في المائة عام 2020، وفق أرقام شركة «ستاتيستا» الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين. أما مجلة «إنترإيكونوميكس» الألمانية فقدّرت التراجع بـ 5 في المائة.

لا حاجة إلى تفصيل الوضع الاقتصادي المتردّي وفق أرقام القطاعات، فالمهم التطلع إلى الآفاق، خصوصاً أن «في خضم كل أزمة، تكمن فرصة عظيمة»، كما قال ألبرت آينشتاين.

الواقع أن جائحة «كوفيد – 19» تتيح ما سماه الخبير الاقتصادي النمسوي – الأميركي جوزيف شومبيتر (1883 – 1950) القيام بـ«التدمير الإبداعي»، أي تقدّم فرصة لتصفية الاستثمارات المتقادمة والأساليب المتهالكة وخلق شيء جديد أفضل وأكثر مرونة واستدامة.

لقد أدرك شومبيتر أن الجنس البشري لا يتقدم بطريقة متوازنة وفي خط مستقيم، بل يترنّح من طرف إلى آخر، وفي كل طرف يصل إليه يَنتج رد فعل مختلف. وكمثال على ذلك، كان رد الفعل على الفكر الاقتصادي الذي نشره الاقتصادي البريطاني الكبير جون ماينارد كينز (1883 – 1946) واعتمدته دول عدة بعد الحرب العالمية الثانية، تَقَدّم النيوليبرالية التي جسّدتها بامتياز فترة حكم مارغريت ثاتشر في بريطانيا، قبل حصول أزمة 2007 – 2008 التي أرغمت الدول على العودة إلى الطريقة الكينزية في إدارة الاقتصاد وبالتالي المجتمعات.

يقول روبرت سكيديلسكي، المؤرخ الاقتصادي البريطاني والخبير في فكر كينز: «بين أيدينا أزمة قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد. على المدى القصير، يحدق بنا خطر ما يسميه بعض المحللين الكساد العالمي الثالث. وعلى المدى الطويل، يكمن الخطر في استنفاد تحمل الطبيعة لعاداتنا السيّئة. أما النتيجة الأسلم لما نحن فيه فتتحقق عبر إدراج تدابير التعافي من تداعيات الوباء في استراتيجية طويلة الأمد تقضي باعتماد أسلوب حياة مستدام. وهنا لا أقول النمو، لأن النمو كما نفهمه لا يكون مستداماً».

ويوضح سكيديلسكي أن التهديد القصير المدى يتّصل بالوظائف وسبل تحصيل الرزق، وهو واضح بما فيه الكفاية. ولمواجهة ذلك، تعمد دول أوروبية عدة والولايات المتحدة وكندا ودول مقتدرة أخرى إلى الإنفاق ومساعدة الناس. إلا أن هذا الحل موقت ولا يفي بالغرض، خصوصاً أن لا أمل بالانتعاش التلقائي والكبير هذه السنة، وهذا يعني قبل أي شيء آخر أن مستويات البطالة ستواصل الارتفاع. وبالتالي ستترك الجائحة جروحاً غائرة في جسد الاقتصاد العالمي تحتاج إلى معالجة فيها الكثير من بُعد النظر وروح الابتكار.

نشر سكيديلسكي في خريف 2009 كتابه «كينز: عودة السيّد» بعد عام من الانهيار المصرفي العالمي عام 2008 وعمليات الإنقاذ الضخمة التي قامت بها الحكومات في أنحاء العالم لتعويم النظام المصرفي المفلس، وتقديم التحفيز النقدي والمالي الكبير. ويرى الكاتب أن هذه السياسة ناقضت ما حصل بعد انهيار وول ستريت عام 1929 والركود الكبير، ومنعت حصول كساد عظيم. ويستدل على ذلك بالقول إن تراجع الناتج امتد أربعة فصول بعد انهيار عام 2008، بينما تراجع على مدى 13 فصلاً بعد انهيار عام 1929.

الدعم والتحفيز على الطريقة الكينزية هما ما تقوم به دول الغرب اليوم، على أمل أن ينتعش الاقتصاد بعد أن تفعل عملية التلقيح فعلها ويستعيد الاقتصاد عافيته بطريقة طبيعية (ارتفاع الاستهلاك وبالتالي الإنتاج وفق الدورة الطبيعية)، وترتاح الحكومات من عبء الاستدانة ومراكمة العجز في المالية العامة.

لكن فات المتفائلين من المحللين هنا أن ارتفاع الاستهلاك وبالتالي الإنتاج يحتاج إلى ثقة المستهلك بأن الوضع الوبائي صار تحت السيطرة من دون أن يكون بالضرورة قد انتهى، خصوصاً أن آراء طبية كثيرة تقول إن على البشر أن يتقبلوا وجود «كوفيد – 19» بين ظهرانيهم إلى مدى غير منظور، وبالتالي المداومة على أخذ اللقاحات واعتماد بعض التدابير الوقائية. يضاف إلى ذلك أن الإنتاج يحتاج بدوره إلى ثقة وإلى خفض الفوائد للتمكن من زيادة الاستثمار. غير أن المصارف لن تخفض فوائد الاقتراض في جو عدم الثقة، ونتيجة ذلك أن إحداث وظائف جديدة لن يحصل بالوتيرة المرجوّة.

*مأزق الدول النامية

إذا كان هذا هو الوضع في البلدان الصناعية المتقدّمة فما بالنا بالدول النامية؟

على هذا الصعيد، تحرك صندوق النقد الدولي، لكن المشكلة هي في تحديد شروط القروض للبلدان التي تواجه ضغوطاً في ميزان المدفوعات، فقد تطلب 76 قرضاً من أصل 91 قرضاً تفاوض الصندوق بشأنها مع 81 دولة تخفيضات في الإنفاق العام يمكن أن تقوّض أنظمة الرعاية الصحية وأنظمة التقاعد، وتجميد أجور القطاع العام (بما في ذلك الطواقم الطبية)، وخفض إعانات البطالة، والتقديمات الاجتماعية الأخرى.

بمعنى آخر، لا يمد صندوق النقد «يد الإقراض» إلا للدول التي تقبل بالتقشف. وهذه كأس مرّة لا تستطيع المجتمعات التي تعاني ما تعانيه بسبب الجائحة تجرّعها. فالناس يريدون من يساعدهم في زمن العزل والإغلاق والبطالة، لا من يطلب منهم التخلي عن مكتسبات هم بأمسّ الحاجة إليها.

ولا ننسى أن دولاً نامية وفقيرة وحتى ناشئة، تثقل ذممها ديون لمصلحة الدول الغنية. لذا قد يكون على هذه تقديم إعفاءات من جزء هذه الديون وإعادة هيكلة الأجزاء الأخرى بشكل جذري وواقعي.

وعلى الدول الغنية أن تتذكر أن تعافيها الاقتصادي لا يكفي، يل يجب أن تتعافى الدول النامية أيضاً، خصوصاً أن الأخيرة هي غالباً «زبائن» عند الأولى. بمعنى آخر، لا يمكن فريقاً أن ينهض من هذه الكبوة الاقتصادية وحده، فإما السلامة للجميع وإما الاعتلال للجميع. ويبقى التذكير بضرورة مراعاة سلامة البيئة والطبيعة في أي خطط جديدة، لأن الإنسان دمّر الكثير من نُظُم هذا الكوكب الذي لن يستطيع تحمّل المزيد من عدوانية البشر… وفيروس كورونا الخبيث هو أكبر دليل على ذلك.

Leave A Reply