الثلاثاء, نوفمبر 26
Banner

المثقف المشاغب

الفضل شلق

المثقف المشاغب هو المثقف الذي يطرح أسئلة لا تريد السلطة السياسية والدينية طرحها أو الجواب عليها. تضطهد من يحاول السؤال أو الجواب. لا يكون المرء مثقفاً إلا إذا كان مشاغباً. مجتمعاتنا العربية، وحتى الإسلامية مغلقة. بحاجة الى كسر الأغلال من الداخل. أنشأنا طوقاً حول أنفسنا بحجة المواجهة الثقافية مع الغرب. تراجع وعينا. تلاشى فكرنا.

يتقدم المجتمع بالأفكار التي تخلخل وعيه القديم. بتدمير الجمود الذي تأسست عليها الايديولوجيا السائدة. المجتمع، إذا توحد، تكون وحدته عضوية، بمعنى أن التقدم لا يحدث في ناحية منه دون الأخرى. لا يمكن التقدم في العلم والتكنولوجيا دون أن يصيب ذلك الدين والسياسة. التقدم ليس واحد الأوجه. هو ذو وجه إنساني بالطبع، وأثره في المجتمع الإنساني كبير. يكفي أنه كان معدل أعمار الذين يعيشون في العصور ما قبل الرأسمالية حوالي الثلاثين سنة. ما بعد الرأسمالية صار متوسط الأعمار أكثر من سبعين عاما في معظم البلدان. للرأسمالية وجهان مثل يانوس. أحدهما التقدم، والآخر الامبريالية.

المثقف لا يوالي أحداً من السياسيين أو الطوائف أو حتى الأحزاب لأسباب شخصية. لا يتبع شخصاً سياسيا مهما علا قدره. ولا يتخلى عن ضميره مهما كانت الشدة. يتصرف بناء على ما يمليه ضميره دائماً. يغرد معظم الأحيان خارج السرب، حتى خارج الجماعة السياسية أو الطائفية التي ينتمي إليها. لا يمنح شرف الولاء الى أي من الزعماء والسياسيين والدينيين. غالبا ما يكون هؤلاء جهلة في أمور كثيرة، ولديهم شطارة في السياسة دون ذكاء. الشطارة تلاعب على الآخرين. الذكاء محاولة الانسجام مع الظروف الموضوعية عالميا ومحليا.

غالبا ما يسعى المثقفون وراء المال. ثقف في الأصل اللغوي تعني القيد على الناقة أو ما يشبهها. هي هنا تعني القيد على العواطف وما يُسمى الغرائز، سواء كانت شخصية، أو دينية، أو سياسية، أو قومية، أو إثنية. يؤسس المثقف مواقفه على المعرفة الموضوعية. كان الصينيون يقولون إن المثقف هو من يعرف شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء واحد. تكاد كثرة المعلومات التي تضخ في أيامنا هذه أن تحل مكان المعرفة الحقيقية. المعرفة ليست معلومات وحسب. هي أيضا، وهذا هو الأهم، القدرة على الربط بين المعلومات. الربط أساساً جزء من القيد والتقييد، أي مهمة من مهام العقل. كثرة المعلومات لا تعني قدرة الربط فيما بينها. لكنه ربط العقل والضمير، لا ربط ينتهي بالولاء.

يميزون في العصر الراهن بين المثقف والباحث. الباحث هو مختص بعلم واحد. ليس بالضرورة أن يهتم بعلوم أخرى. وليس بالضرورة أن يتخذ موقفاً في الشأن العام. مهمة المثقف الأساسية هي الموقف. عندما يكون للباحث موقف أو مواقف سياسية، فهو يفعل ذلك بصفته مثقفاً لا باحثاً. ذلك ناتج عن طبيعة العلم في هذا العصر. معظم الأحيان يجري البحث العلمي في فرق ومؤسسات يموّلها أصحاب رأس المال. لا يريدون أن يتعاطى الباحث في الشأن السياسي. صادر رأس المال العلم الطبيعي الحديث، كما صادر الفقهاء ورجال الدين العلوم الدينية. هم وحدهم بنظر أنفسهم يفقهون الدين والكلام المقدس. قدسية العلم الحديث صادرها الرأسمال أو الاستبداد.

يُفرض على الباحث أن يكون موضوعياً. هو يتحرى الحقيقة في مجاله. عندما ينسحب ذلك على تعامله مع المجالات الأخرى، وتتحوّل الموضوعية الى حياد، يكون الإخصاء السياسي. سدنة هياكل العلوم الطبيعية والدينية، الرأسمال ورجال الدين، لا يريدون لغيرهم أن يوغل في السياسة. يخافون المثقف ويضعون الأغلال على الباحثين. يطيب ذلك للاستبداد. حتى في البلدان الديموقراطية العريقة، تطغى المصادر على الحقيقة.

لا يستطيع المثقف العربي في كل بلد عربي إلا أن يكون مشاغباً، وهو يرى الناس يعيشون أسوأ عيشة في ظل الاستبداد، ورقابة الأجهزة، وانتشار المزاج الديني، واللاعقلانية. لا يمكن إلا أن يكون موقفه تحريضاً معارضاً للسلطة السياسية والمجتمعية. استمرار ثورة 2011 سيكون صعباً. لا نعرف هل أنتجت أو ستنتج تجدداً في الوعي والمفاهيم. ما سيطر بعدها في الوطن العربي هو حروب أهلية طاحنة وتدخل جيوش اقليمية غير عربية وجيوش الدول الكبرى. يكاد المرء يظنها حرباً عالمية تندمج فيها الثورة المضادة مع القوى الدولية. يكاد المرء يظن أن هناك حلفاً بينها برغم التنافس ضد العرب. حرب عالمية على أرضنا، ضد العروبة.

هذه حروب بين الشعوب العربية من جهة والمنظومة الإقليمية والدولية من جهة أخرى. مهمة المثقف العربي صعبة. لا يستطيع ذو الضمير إلا الوقوف إلى جانب الشعوب العربية. الموضوعية تقتضي عدم الحياد. لا يستطيع التذرع بالموضوعية لاتخاذ موقف حيادي يضمن سلامته. تشارك المنظومة العربية في الحروب الأهلية من اليمن حتى تونس. حتى مصر المستقرة نسبياً محاطة، بالأحرى محاصرة، من الجهات الأربع.

إذا إضطر الباحث أن يكون موضوعياً وحيادياً بحكم مهنته، والحيادية ليست مدعاة للفخر، فإن المثقف لا يستطيع أن يكون حيادياً برغم ضرورة الموضوعية. لا تتلازم الموضوعية والحياد. الموضوعية طريق المعرفة، وهذا ضروري. الحياد ليس موقفاً إنسانياً، ونحن نرى شعوبنا تخضع لممارسات هي أشبه بحروب الإبادة. يقول البعض إنها حروب عبثية. هي ليست كذلك. هي حروب إبادة؛ إبادة الشعوب أو ثقافتهم. العبء الثقيل ليس لأن المثقف مضطر لمواقف تتعلّق بالحريات والثقافة والوجود وحسب، بل لأنه مضطر في نفس الوقت الى خوض حرب الوعي في زمن تختلط الأمور فيه وتكاد الثورة المضادة تسيطر على قضايا الأمة من فلسطين الى الدين الى اللغة الى الحداثة. تحالف شيطاني يخوض الحرب ضد العرب والعروبة. تحالف أصولي، استبدادي، يساري، وحداثي. الى جانب ذلك خدمة مصالح الدول الاقليمية الكبرى. مثقفو الثورة المضادة يضعون الدين والحداثة واليسار في خدمة الثورة المضادة. يصادرون فكرة التقدم. لا يتركون لمن خرج من 2011 مناضلاً إلا وقد صادرت الثورة المضادة كل قضاياه. حتى ثورة 17 تشرين في لبنان إدعى أطراف المنظومة الحاكمة الانضمام إليها. وكان تفجير المرفأ والمدينة وما حدث وسيحدث من اغتيالات عقاباً جماعياً، ومحاولة لكم الأفواه. ساعدتهم الكورونا في ذلك.

هي حرب عالمية، بجيوش عالمية، تشن ضد الشعوب العربية، وضد احتمالات العروبة، وأمتها التي لن تتحقق إلا بالدم، ودولتها التي لن تكون إلا بعد استنفاد كل احتمالات الثورة المضادة. بدأ يتزعزع نظام العولمة وحرية التجارة قبل الجائحة. لكن حروب اللقاح وما سيلحق ذلك من تنفيذ لتهديدات بين أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا سوف تفجّر وضعاً قابلاً للانفجار. الحروب الجمركية سبقت ذلك. الدول الكبرى والمتوسطة وجدت عائداتها الضريبية تتضاءل مع تنامي النيوليبرالية الداعية الى تصغير حجم الدولة، وعدم الاكتراث بها في المعاملات التجارية والمالية. هذه الدول مضطرة الآن للنضال من أجل استعادة مواقعها وسلطتها الكلية (الكيانية) التي فقدتها، والتي تظن أن جائحة الكورونا ستساعدها في رجعتها، ليس ضد الدول الأخرى فقط، بل ضد مجتمعاتها أيضاً. حروب اللقاح تتزامن مع كم الأفواه (الاستبداد)، والتباعد الاجتماعي (تزرير المجتمع)، وغسل اليدين الدائم والتطهير (من كل القضايا العامة). في الحرب بين الإنسانية والفيروس، على المواطن أن يخضع للتعليمات التي تفرضها الدولة، وصولاً مع تنامي الفاشية الى الخضوع لكل تعليمات الدولة. التعمية حاصلة. حروب اللقاح هي حروب بين شركات الأدوية، ومنافسات بين الدول. يُقضى على اللقاح بإشاعة مهما كانت صحتها. كثير من اللقاحات يُصنع في دول غير دول المصدر، والأمر معقّد.

الأزمة المالية بدأت قبل الجائحة. لكن ثروات كبريات شركات التواصل الاجتماعي وشركات الأدوية تتزايد، بحيث أن ما يملك الواحد منهم يفوق الدخل السنوي لأندونيسيا. نصف سكان العالم لا يملكون قدر ما يملك واحد من كبار الأغنياء. التضخّم يزداد في العالم. تريليونات الدولارات التي تطبعها الولايات المتحدة لمساعدة الفقراء سوف تزيد مشاكل التضخم تفاقماً. ليس معروفاً، على الأقل كما تدعي الدول الكبرى، أين ذهبت ثروات الأغنياء. ولماذا لا تتم السيطرة عليها بدل طبع أوراق مالية جديدة؟

لقد تغيرت طبيعة الرأسمال في الطور الأخير. سيطر الرأسمال المالي على الاقتصاد. وضع تحت جناحه الرأسمال الصناعي والتجاري والزراعي والخدماتي. من قيمته صارت تستمد كل القيم الأخرى. الرأسمال المالي يمكن أن تحركه كيفما شئت. ليس مرتبطاً بأرض. ليست له أرض؛ إلا بما يحتاج الى دولة في السياسة الداخلية والديبلوماسية الخارجية. مؤسساته فوق مؤسسات الدول. الأرجح أنه يديرها. لكن المال فرض قيمه على جميع قطاعات المجتمع. فرض قيمه على المجتمع ووعي المجتمع ودين المجتمع. كل شيء يقيّم به؛ كل شيء مشتق منه؛ هو يملي القيّم. الربح مصدر كل القيّم. العالم يحترق، يموت بفعل الحروب الأهلية؛ العالم يموت بفعل الكورونا؛ النيوليبرالية لا يهمها من ذلك شيء. الأرباح تتحقق بأعلى كمية في التاريخ. وال ستريت ليست مقياساً للاقتصاد. هي فقط مقياس للنيوليبرالية في تبادلاتها.

المناضلون ضد نظام العالم قسمان. قسم يريد تغييره الآن. قسم يريد أن يفهمه بتطوراته. لا تستطيع أن تغيّر العالم دون أن تفهم تطوراته. عليك أن تفهم ماذا تغيّر. مهمة المثقف تزداد صعوبة خاصة بالنسبة لدارسي الماركسية. أرباح الرأسمالية لم تعد في المصانع والمتاجر والمزارع والخدمات. ليست في ما يسمى الاقتصاد الحقيقي. هي في ما سماه ماركس دورة المال. بوجود صناديق استثمار المال، يجري المال دون أن يدخل سوق الإنتاج. هو مادة سريعة التحرّك. تستطيع الخروج من أي بلد بسهولة. كلما أراد بلد التركيز على سياسة السيادة (الهوية) والاعتماد على القوى الداخلية في الإنتاج والسياسة، تهرب الرساميل فجأة. يواجه البلد أزمة الخيار بين الإفلاس أو الخضوع لشروط الرأسمال المالي الممثل بالمؤسسات الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي. شروط هذا الصندوق مطبقة في كل بلد دخل إليه لإنقاذه. عادة يكون العبء على الطبقة الوسطى والفقراء. الأغنياء أخذوا الإشارات اللازمة وهرّبوا أموالهم من البلد قبل الأزمة؛ بالأحرى طاعتهم للنظام العالمي جعلتهم يهربون أموالهم سلفاً ويساهمون في الأزمة. وعندما تبدأ الأزمة، وتبدأ معها الحلول، تكون الإجراءات مرتكزة على رفع الدعم عن المواد الأساسية وزيادة الضرائب. كل ذلك يصيب الفقراء. بالطبع يلوّح النظام بخفض الشروط والضرائب على أصحاب الأموال وعلى الاستثمارات كي تعود، ولن تعود. هي أموال منهوبة ليس بتهريبها للخارج بل لأنها اقتطاعات من عمل العاملين في الصناعة والزراعة والخدمات. القيمة الحقيقية لا تنتج إلا من حصيلة العاملين من طبقة العمال والبورجوازيات الصغرى والمتوسطة والفقراء، أو الطبقة الرثة من العمال. لم يعد هناك معنى للنضال ضد البورجوازية. هذه تحتاج الى إعادة تعريف وتحديد بينما تنحدر الى برجوازية صغيرة. وهذه الأخيرة تنضم الى البروليتاريا، والبروليتاريا الى البروليتاريا الرثة ذات الفقر المدقع. كل هؤلاء يصابون بجائحة الفقر. البرجوازية ذات الرأسمال المالي الكبير انضمت منذ زمن الى الرأسمال المالي العالمي، والى النظام العالمي؛ وهي تساهم معه ومع منظماته الدولية. لم يعد عند البورجوازية شيء تدافع عنه. هي من حيث لا تريد صارت في عداد الطبقات الدنيا. إلغاء الرأسمالية الصناعية في لبنان، مثلاً، ومن قبلها الرأسمالية الزراعية، ألغى عمليا ما يسمى البرجوازية الوطنية كما كانت في أدبيات الشيوعيين في العقود الماضية، بل خلال القرن العشرين.

النظام العالمي قائم على ريع رأس المال لا الربح. على كل حال لم يعد هناك منذ ثمانينات القرن الماضي تمييز بين الربح والريع. كل أموال الطبقة العليا ريع، وكلها سرقة ونهب سواء كانت في الخارج أو الداخل. خسارة المصارف في لبنان هي في خروج الرساميل والاستثمارات الى الخارج. الخسارة الفعلية وهمية. على الفقراء أن يدفعوا ثمن وكلفة الخسارة الوهمية. يدفعون أموالاً حقيقية تنتج في الاقتصاد الحقيقي (صناعة، زراعة، خدمات) ريعا لمن يحققون الأرباح الحقيقية. هؤلاء هم رأسماليو المال. ارتباطهم بالخارج كان قبل أن يهرّبوا أموالهم. اصطنع النظام العالمي الأزمة، وهم كانوا منضمين إليه منذ البداية، ويواكبون حركة استثماراته. رتبوا أمورهم في الخارج وصاروا موجودين هناك، بأجسادهم وأموالهم. يترددون على البلد كي لا يضيعوا دورهم السياسي. ليس هناك خسائر عند الطبقات العليا. هناك فقط من يخرجون أموالهم الى الخارج أو يفعلون ذلك في الداخل لأهداف سياسية. ما هو موجود في البيوت ليس شيئاً بالقياس الى ما بلغته ايداعات البنوك، التي كانت موجودة وهرّبت كي تنتج أزمة الخسارة المفتعلة.

الرأسمال المالي ليس له مكان محدد. هو في كل مكان يريد؛ رؤوس الأموال المالية الوطنية تلحقه. تعرف بالأزمة مسبقاً فتتخذ اجراءاتها الاحتياطية بالخروج. على المثقف أن يعرف تطورات الرأسمال خلال العقود الماضية. الرأسمال الزراعي والصناعي مرتبط بالمكان بخلاف الرأسمال المالي الذي يجري في شبكة حول العالم. هذا يسمى عولمة؟ نعم! كاتب هذه السطور ليس باحثاً في الأمور المالية. يجب أن يعرف المثقف أنه يناضل في البلد ضد قوى رأسمالية لم تعد هي وأموالها في البلد.

على المثقف المناضل أن يكون مناضلاً لأسباب إنسانية، ومشاغباً لأسباب سياسية. لكن عليه قبل كل ذلك أن يفهم النظام العالمي قبل أن يضع برنامجه. أزمة الوعي التي في عقولنا هي عقبة كأداء في وجه النضال. على المثقفين وضع العربة قبل الحصان. وضع الفهم النظري قبل النضال. سيكون أمراً مبالغاً فيه اعتبار أننا لدينا الحلول النظرية الجاهزة للتطبيق والنضال. فهم المسألة يتطلّب حواراً واسعا ونقاشاً يطال كل الطبقات المصابة. الثورة المضادة مغلقة. ثورة الطبقات الدنيا مفتوحة من أجل مجتمع مفتوح. ذلك يتطلّب كسر القيود الفكرية والسياسية التي يكبّل النظام بها مجتمعه. أهم القيود الموضوعة على المجتمع هي الطائفية.

Leave A Reply