نبيل هيثم – الجمهورية
ثمة من يعتقد أنّ أزمة الصادرات الزراعية إلى السعودية تنحصر في مخدّرات تمّ ضبطها موضّبة داخل شحنة رمّان في ميناء جدّة.. ولكن في المقابل، ثمة من يعتقد ايضاً أنّ القصة أكبر بكثير. هي أكثر من «كبتاغون» مخبأ في «رمانة». هي في الحقيقة «قلوب مليانة».
بمعزل عن هذين « الاعتقادَين»، لنقم بجولة تاريخية على هذه المسألة، لتبيان اي من هذين «الاعتقادَين» هو الأصح، والأقرب الى العقل:
أولاً، انّ ظاهرة التهريب بحدّ ذاتها ليست جديدة، مصدّرو الخضار والفواكه اللبنانيون أنفسهم يتحدثون منذ سنوات عن منتجات تتلف لمجرّد ضبط شحنة تهريب عند معبر حدودي أو مرفق بحري.
ثانياً، ان تهريب المخدرات جريمة منظمة عابرة لحدود الدول، وتقوم بها عصابات «فوق وطنية»، يمتد نشاطها في الشرق الأوسط، على نطاق جغرافي واسع الإطار، يبدأ من بلدان التصنيع، ويمر في بلدان الترانزيت، ليصل إلى بلدان الاستهلاك. وهو أمر ينسحب على «الرمان الملغوم» الذي يمكن اعتباره بلد ترانزيت، مثل أي بلد آخر، بما في ذلك – نظرياً وعملياً – السعودية.
ثالثاً، وهنا الأهم، أن أي قرار بوقف الاستيراد هو قرار سياسي في الأساس، ونادراً ما تلجأ إليه هذه الحكومة أو تلك في حال تأزم العلاقات السياسية وليس لمجرّد شحنة ممنوعات تم ضبطها، من بين مئات العمليات اليومية المتصلة بالجريمة المنظمة.
رابعاً، لا يمكن إلا الوقوف أمام توقيت الخطوة السعودية، التي تأتي في مرحلة يصارع لبنان الانهيار الاقتصادي تماماً كما يصارع مريض السرطان أورامه الخبيثة، محاولاً استثمار ما تبقى من موارد تؤمن للبلاد العملة الصعبة، وبما يضمن الحد الأدنى من مقومات الصمود أمام الحصار.
ثمة من يبرّر للمملكة اي خطوة تتخذها لحماية امنها ومجتمعها، واتخاذ اي خطوة رادعة بحق من يحاول المساس به، والاجراء الذي اتخذته بحق لبنان هو إجراء طبيعي من بلد يتعرض لاستهداف خطير جدا في امنه ومجتمعه عبر تهريب المخدرات. وبالتالي، هو ألقى الكرة في اتجاه الجانب اللبناني ليوقف هذا الآفة التي تخرج منه او تعبر من خلاله.
وفي المقابل، ثمة من يعتبر ان ما حصل، الى جانب شواهد عدة، يوحي بأن شحنة «الكبتاغون» هي فصل جديد من محاولات اقليمية ودولية لخنق لبنان أكثر فأكثر. وكل ما جرى منذ سنتين على الأقل يشي بأنّ هناك قراراً بأنه ينبغي على لبنان أن يسقط، وفق سيناريوهات يبدو أن وتيرتها باتت أقل سرعة مما كان مخططاً له.
لو نظرنا إلى مسار الأزمة الاقتصادية بلبنان، وقارنّاه بقدرة اللبنانيين على التكيّف مع الأزمات، وهو أمر يمكن تلمّسه في حقيقة أن الحياة في لبنان تسير برغم كل الصعوبات – وتلك ميزة ربما تفتقدها شعوب أخرى – لأمكَن فهم أن هناك إحباطاً في نفوس الراغبين في سقوط البلاد، ومن هنا يمكن فهم أي إجراء من قبيل وقف الصادرات الزراعية وغيره.
من الخطأ إلقاء اللوم على الآخرين. في نهاية المطاف، إنّ السياسة في عصرنا اليوم باتت تحرّكها المصالح أكثر منه سرديات «التضامن العربي» و»الشعب الشقيق»… إلى آخر تلك المصطلحات التي لا يزال لبنان أسيراً لأوهامها.
الخطأ الأساسي هنا، في لبنان، حيث باتت كل العوامل التي تسوّق لفكرة «الدولة الفاشلة»، التي يريدها الخارج، قائمة في كل نواحي الحياة السياسية والإدارية المهترئة، ولعل الأزمة الحالية مع السعودية قد كشفت عن جانب صغير منها، حين نعلم أنّ ثمة مرسوماً بتعزيز قدرات السلطات الجمركية ما زال اسير أدراج الخلافات والمحاصصات… وربما العمولات التي ما زالت مأمولة في بلد مفلس.
كل ذلك يفتح الباب أمام علة العلل التي تكرّس فشل الدولة في التصدي لأبسط التحديات التي تواجه أمنها الاجتماعي والاقتصادي والغذائي، والمتمثلة في منظومة العلاقات السياسية التي ما زالت تناقضاتها تحول دون الدفع بالبلاد، ولو بخطوة واحدة، باتجاه الإصلاح أو بالأصح الإنقاذ، والتي بات الكل، في الداخل والخارج، يعرفونها جيّداً: تشكيل الحكومة الجديدة.
يوماً بعد يوم، تصبح المسافة التي تفصل لبنان عن التسوية الحكومية تُقاس بالسنوات الضوئية، في وقت يبدو الزمن الذي يفصله عن لحظة الارتطام يُقاس بالأيام، وربما بالساعات والثواني.
كل ذلك يحدث، ولا يحرّك أحداً ساكناً، لا بل أن الخطاب التصعيدي بات سيّد المواقف المعطّلة للحلول، على النحو الذي يتجاوز مسائل من قبيل «الثلث المعطل» و»حصة الرئيس» وحكومة الأربعة وعشرين أو الثمانيات الثلاث… إلى آخر تلك السفسطة السياسية التي تجعل رافعيها أقرب إلى نيرون المستمتع بحريق روما.
وفق هذا المنطق العبثي – التدميري جاءت الاطلالة الأخيرة لصهر العهد جبران باسيل لتعكس أن لا حكومة على المدى المنظور في لبنان، ولتؤكد بعض التوقعات أنّ ما تبقّى من العهد العوني سيكون عهد تصريف أعمال، أو بالأصح عهد ادارة الانهيار (!) وكل ذلك خدمةً لطموحات رئاسية مدمّرة بات كل شيء في البلد مسخّراً من أجلها، ابتداءً من سيف العقوبات المرفوع على رؤوس المواطنين قبل السياسيين، مروراً بالفشل في إدارة تفاصيل الحياة اليومية التي من شأنها أن تحمي الموظف والعامل والمزارع ولو بالحد الأدنى، وصولاً إلى السيادة الوطنية من بوابة ترسيم الحدود البحرية، التي دخلت بدورها دائرة البازار السياسي المقيت.
لكأنّ ثمة منحى لتكرار المقولة التي اشتكى منها العونيون قبل سواهم منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يوم طرح ريتشارد مورفي معادلة «إما مخايل الضاهر أو الفوضى»، لتصبح في يومنا هذا «إما جبران باسيل أو الفوضى»… ولكن شتان ما بين الزمنين، فإذا كانت تركة الحرب الأهلية التي ورثها اللبنانيون قد أتاحت لهم بعض الهوامش للنهوض في التسعينات، فإنّ الحرب الاقتصادية التي يعيشونها اليوم لن تترك أية مقومات، طالما أنّ ما دمّرته المنظومة السياسية في السلم قد فاق ما دمرته الميليشيات في الحرب!