خالد أبو شقرا – نداء الوطن
لعلّ أكثر ما يهدد لبنان هو بقاء “جمر” الأزمات “مدفوناً” تحت “رماد” الخوف من الإصلاح. ما ينطبق على الكهرباء، التهريب، التهرّب الجمركي، القضاء، الدعم وبالبطاقة التمويلية… ينسحب أيضاً على القطاع المصرفي؛ بيت الداء والدواء لمستقبل الإقتصاد اللبناني.
لم تخطُ المصارف اللبنانية، منذ قرابة السنة ونصف السنة على انفجار الأزمة الإقتصادية والنقدية، خطوة واحدة لتخرج من دائرة “الزومبي بنك”. فاستمرت فعلياً من دون رساميل بانتظار “شيء ما”، يتعدى الأطر التنظيمية التي فرضتها تعاميم مصرف لبنان وتحديداً التعميم رقم 154. هذا الشيء قد يكون، بحسب الخبير المصرفي نيكولا شيخاني إقرار “الكابيتال كونترول”؛ ففي هذا القانون إمتحان جدي تكرّم فيه المصارف القادرة على الإيفاء بالتزاماتها كما يحددها القانون فتبقى في السوق، أو “تهان” من لا تمتلك منها الرساميل الكافية فتخرج من المعادلة.
المدخل لإعادة الهيكلة
أهمية إقرار قانون لـ”الكابيتال كونترول” بالمعنى العام، وبغض النظر عن الإختلاف على البنود يبقى، بحسب شيخاني، “أساسياً لاعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يواجه مشكلتين أساسيتين:
– الملاءة، وهي تتمثل في تكبد القطاع خسائر تتخطى رأسماله، حتى بعد زيادته بنسبة 20 في المئة، كما يفرض مصرف لبنان. فرأسمال المصارف البالغ 20 مليار دولار سيرتفع إلى 24 ملياراً في حين أن الخسائر قد تتخطى هذا الرقم بحوالى 10 مليارات دولار.
– السيولة، وتتمثل في حجز المصارف ما يقارب 70 في المئة من أموال المودعين في مصرف لبنان بقيمة تقدر بحوالى 80 مليار دولار أميركي. وهذا الخطأ ناتج عن قيام البنوك بتوظيف نسبة كبيرة جداً من الودائع في “المركزي” لفترات طويلة الأجل (10 سنوات)، في حين أنها موظفة لديها لفترات قصيرة بمتوسط سنة واحدة تتجدد تلقائياً. هذه العملية التي يمكن تنفيذها على نسبة قليلة جداً من رأسمال المصرف تصبح في حال تخطيها الـ25 في المئة “single borrower exposure”، ما يعني تعريض المودعين لمخاطر عالية جداً. من هنا عجزت المصارف عن استرداد الودائع بغض النظر عما فعله بها مصرف لبنان. حتى أن الحاكم عرض في إحدى المرات ردها للمصارف مقابل حسم نسبة كبيرة منها، وهذا ما رفضته الأخيرة لانها تربح منها فائدة سنوية تقدر بنحو 10 في المئة.
من الواضح أن جمع المصارف لهاتين المشكلتين يجعلانها فعلياً غير قادرة على الإستمرار، إلا أن “المعجزة” التي أطالت بعمرها منذ 17 تشرين الأول ولغاية اليوم هي استنسابيتها في السحب والتحويل وفرض قيود على الرساميل تلائم مصالحها. من هنا فان “الكابيتال كونترول”، برأي شيخاني، يقلب المعادلة ويجبر المصارف على إعادة الهيكلة. وهذا ما ظهر جلياً من خلال رد جمعية المصارف على اقتراح قانون “الكابيتال كونترول” التي اعتبرت فيه ان المصارف متعثرة ولا تستطيع تسديد ما يفرضه عليها هذا القانون.
إعادة الهيكلة
يجمع الخبراء على وجود عدة طرق لاعادة الهيكلة، وإن كانت جميعها تنضوي تحت العنوان الكبير: فصل البنوك الجيدة عن البنوك الرديئة، أو ما يعني بالمصطلح المتعارف عليه عالمياً GoodBanks & BadBanks. وفي الحالة اللبنانية يعتبر شيخاني أن الحل الأفضل هو إجراء “مراجعة أصول الجودة”(QAR)، لكل مصرف على حدة. وعلى ضوء النتيجة تتحدد المخاطر على المودع وقدرة البنك على العودة إلى تطبيق معايير بازل 3، وIFRS9 المتعلق بتثقيل المخاطر وأخذ الإحتياطات اللازمة، بعدما تخلت المصارف عن هذه المعايير طوال الفترة الماضية. وهنا من المفروض أن يظهر نوعان من البنوك:
الأول، يستطيع الإكمال وفق الشروط العالمية بعد حسم الأصول السيئة.
الثاني، يخرج من السوق لانه لا يملك أصولاً صالحة لإعادة الهيكلة.
وفي هذه المرحلة تبدأ المعالجة التقنية لإعادة الهيكلة، حيث يتمّ انشاء شركة مالية مستقلة، توضع فيها الأصول المتعثرة لكل البنوك لكي تتم تغطيتها في المستقبل، وتُبقي على الأصول الجيدة في البنك الأصلي.
متطلبات إعادة الهيكلة
بالإضافة إلى النية الجدية بانقاذ القطاع المصرفي، فان “إعادة الهيكلة تتطلب من وجهة نظر شيخاني مجموعة من الإجراءات أهمها:
– تنفيذها بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. وأن تكون من ضمن خطة متكاملة إقتصادية ومالية متماسكة.
– تفعيل وتحديث التدقيق المحاسبي في المصارف، والتركيز على أن يكون المدققون الخارجيون external auditors يتمتعون بالمسؤولية وليس أن يروا المخاطر ولا يتحركون.
– إعطاء الهيئات الرقابية والتنظيمية كـ”لجنة الرقابة على المصارف”، و”هيئة التحقيق الخاصة” و”هيئة الأسواق المالية” إستقلالية عن مصرف لبنان. بحيث لا يعود اعضاؤها موظفين في “المركزي”، ولا يعود الحاكم هو الرئيس الأعلى لهذه الهيئات. ولعلّ هذا التشارك في المصالح هو ما أوصل البلد إلى ما نحن فيه اليوم.
– تعيين مجالس إدارة مستقلة في المصارف.
– فصل منصبي رئيس مجلس الإدارة والمدير العام عن بعضهما البعض.
– إنشاء وحدة رقابة داخلية أقوى عبر جميع البنوك لضمان تطبيق العمليات والإجراءات بما يتماشى مع “معايير الحوكمة الرشيدة”. وهذا من شأنه أن يضمن الحد من تضارب المصالح المحتمل، ومراقبة مناسبة للمخاطر وعملية تدقيق أفضل.
– وضع حد أقصى لمشاركة الأشخاص المعرضين سياسياً (PEPs) لمشاركتهم في القطاع المالي لتجنب تضارب المصالح بين المجالين السياسي والمالي، ومنعاً لاستغلال النفوذ لتأمين مصالحهم قبل الغير، ومساعدة المصرف، كما حصل مؤخراً في لبنان.
– تركيب نظام مخاطر أقوى وأكثر صرامة، وتقديم مصلحة المودع في هيكلية المصرف على الأرباح.
ما لم يُصَر إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي في القريب العاجل على أسس واضحة ومتينة فان المشاكل ستزداد. وسيُفصل البلد عن النظام المالي العالمي، بسبب عدم استعداد المصارف المراسلة على التعامل مع المصارف اللبنانية وفتح خطوط اعتماد لها، ما لم تكن ميزانياتها متطابقة مع المعايير العالمية. فلا يمكن، بحسب شيخاني، “أخذ احتياطيات هزيلة على الخسائر المقدرة بمليارات الدولارات، في حين أن بازل 3 يطلب اتخاذ مؤونة بنسبة أكبر بكثير مما طلبه المصرف المركزي من البنوك، والإدعاء بأن المصارف مظلومة.