الكاتب – طلال سلمان
سقط الدم على الأرض. التهبت الأرض. فارت براكين الأرض الخامدة والمخمدة قسراً. زلزلت الأرض زلزالها، فإذا سطحها »قاني« اللون متوهج بالغضب.
سقط الدم على الوجوه. اشتعلت الوجوه بوجع الجوع إلى الثورة.
سقط الدم على الزنود. غادر الشلل الزنود التي كانت قد هجرت السلاح واستكانت إلى أوهام السلام المستحيل.
سقط الدم على العيون. انفتحت العيون على الحقائق المطموسة أو المنسية فرأت، كأنما لأول مرة، الأشياء والناس والمواقع.
سقط الدم على الذاكرة. انتعشت الذاكرة المكدودة والمقموعة، فبعثت فيها الأيام والأسماء جميعاً. لم تتبدل الحال، إذاً، ولم تتغير الصفات الأصلية بفعل التقادم. الدم هو الدم، والقاتل هو القاتل والقتيل هو المقتول كلما استعاد وعيه بذاته. نحن من نحن وهم هم، وبين العالمين حاجز من دمنا: لا هم يستطيعون الوصول إلينا إلا إذا أماتونا أو تطوّعنا فتماوتنا أو أمَتْنا أنفسنا، ولا هم يريدون أن يصيروا مثلنا أو منا لأنهم بذلك ينتهون.
سقط الدم على الكراسي. صارت الكراسي نوافير وشلالات. بات الجلوس مستحيلاً، وبات وقف الطوفان صعباً، أما الإطمئنان فقد ذهب بغير رجعة. الدم للضحية إثارة قد تدفعه إلى تدمير العالم، والدم للجلاد أقصر الطرق للسيطرة على العالم.. الإفتراق حتمي، إذاً، ومن ثم يكون التصادم المفتوح بين الدم والسيف.
كيف تتجاوز دمك لتعانق عدوك؟
بينك وبينه جثتك، تحاول أن تقفز إليه من فوق ذاتك متسامحاً، وقد غفرت له مذابحه في أهلك… لكنه لا يريدك، أنت أيضاً، الا جثة. لا يحب العرب إلا أمواتاً.. فإن كان لا بد من بعضهم أحياء صيّرهم دواباً تحمل عنه أثقاله. إن كنت تطمع في رأفته فعليك أن تسلمه مفاتيح بيتك، جاهزاً ومفروشاً، أن تغرس له بستانك ثم تجني له ثمار شجرك، أن تحصد له سنابل حقلك وتسلمه المحاصيل فيهبك عشاء وفرشة اسفنج وبطانية وبطاقة لاجئ بلا مغيث!
* * *
سقط الدم على الأرض، لم يسقط الزند. لم تسقط الروح.
بكت الثاكل وحيدها، لكنها طالبت زوجها بالثأر وأعطته الحلق وآية الكرسي و»ما شاء الله« التي اهداها في العيد لكي يبدأ من جديد. نصبت خيمة فوق أنقاض البيت وانتصبت فيها راية، لن نرحل. هنا نبقى، هنا نعيش، نقاوم، نغالب الموت والقتلة حتى نغلبهم.
سقط الدم على الأرض. ارتفع الصمود قلعة حصينة.
سقط الدم على الأرض. سقط العجز فغار في التراب حتى اندثرت آثاره. سقط التفجع. لا يُبكى الشهيد بل يُقتدى به.
آن أن يخرس عويل التذلل. آن أن تختفي نأمة التظلم الذي لا يسمعه إلا شامت أو متشفٍّ.
للغضب وحده يصغي العالم.
وحدها كلمة »لا« المقدسة هي المسموعة.
تقول »لا« فيسمعك حتى أصم القلب والأذن.
تشهر دمك سيفاً فإذا »قانا« تملأ الكون.
لقد سقاها السيد المسيح من خمره، في عرسها، مرة، وها هي الآن تطعم العالم من لحمها اللدن، فلا يستطيع بعد أن ينساها أو أن ينسى القاتل الوحش الذي يتغذى بأحداق الأطفال.
* * *
ها هي الصورة تستعيد تفاصيلها الأصلية.
سقط الدم على الصورة فأسقط التمويه والتحريف والتشويه وغبار النسيان.
إسرائيل هي »العدو«. عدو الطفل اليمني، والجنين المصري، عدو الفتى السوداني، وعدو العجوز الفلسطيني، عدو المرأة في الجزيرة العربية وعدو أستاذ الجامعة في السودان، عدو الفلاح في الجزائر…
سقط الدم على الصحيفة فاكتست الكلمات صورة الحقيقة.
اترك جانباً الإفتتاحيات وتصريحات القيادات. توغل إلى رسائل القراء: لقد عادوا بعد التشتت والتمزق والتبعثر والضياع واحداً. من تونس إلى البحرين، ومن عمان إلى ليبيا، ومن مصر إلى العراق، ومن سوريا إلى المغرب: لقد استعاد الكل اللغة والمسميات الأصلية.
تهاوت أسطورة السلام الإسرائيلي.
وعادت إلى السطح صورة الأميركي البشع.
ولم يجد خطيب المسجد الحرام غير الدم »القاني« ينثره على جموع الحجاج المقموعين والممنوعين من التحدث في السياسة.
استعادت إسرائيل اسمها الأصلي: العدو.
واستعادت الولايات المتحدة الأميركية اسمها الأصلي: حامية العدو.
تبخرت أساطير »الصداقة« و»التعاون« و»التحالف« و»رعاية السلام«..
ليس لأميركا سوى حليف واحد هو إسرائيل.
…
وها هم »الأهل« من العرب يعودون إلى ذواتهم ويكتشفون أو يعيدون اكتشاف الحقائق الأصلية ويعيدون إلى المسميات أسماءها المهجورة.
الدم هو دمنا جميعاً. القاتل هو قاتلنا جميعاً، وسيفه هو أداة الصلح والتوقيع وتاريخ السقوط.
* * *
العرب يعودون إلى العرب من جديد،
والرحلة طويلة، فهم يعودون من البعيد.
سقط الدم على الأرض. حفظ الدم الأرض. حفظت الأرض الدم. حفظت الأرض والدم كحل الأرض.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 10 أيار 1996