جاء في صحيفة ” الديار ” : أرسل أمين عام مجلس الوزراء القاضي محمود مكيّة مشروع موازنة العام 2021 بصيغة ”مُنقّحة” إلى الوزراء بدون معرفة إذا ما كان رئيس الحكومة المُستقيلة حسّان دياب سيدعو إلى جلّسة لإقرارها أم لا. التوترات القائمة بين الرئاستين الثانية والثالثة تُشير إلى أن إحتمالات قبول مشروع الموازنة مرهون بعوامل كثيرة أهمها اجتماع مجلس الوزراء. فنائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي وفي مُقابلة تلفزيونية قال بالحرّف الواحد “الرئيس دياب رئيس مستقيل وحكومته مُستقيلة غير مسؤولة، والقوانين التي تأتي إلى المجلس النيابي تأتي بصورة إستثنائية وهي مُخالفة للدستور”. وإتهمّ الرئيس دياب بأنه أفلس لبنان (من خلال وقف دفع سندات اليوروبوندز) واليوم يُطالب – أي الرئيس دياب – اللبنانيين بأخذ أموالهم الموجودة في الإحتياطي الإلزامي.
هذا الأمر يعني بكل بساطة أنه في الشكل هناك تعقيدات كبيرة تلفّ عملية إقرار موازنة العام 2021 وهذا الأمر ينسحب أيضاً على البطاقة التموينية في ظل التشنّج الواضح في العلاقة بين الحكومة المُستقيلة والمجلس النيابي خصوصًا أن رأي نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي يُعبّر عن وجهة نظر مجلس النواب بصورة عامّة.
في المضمون، مشروع موازنة العام 2021 هو مشروع “إنكار” للواقع الاقتصادي، والمالي، والنقدي، والإجتماعي الذي يعصف بلبنان والمواطن اللبناني. ولا يأخذ هذا المشروع بعين الإعتبار نقاطاً أكثر من جوهرية في الوقت الراهن:
أولا – سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي وما يترتب عليه من إنفاق ومداخيل؛
ثانيًا – الدين العام الذي وعلى الرغم من التوقف عن دفعه لا يعفي الدولة من إلتزاماتها تجاه المقرضين؛
ثالثًا – خطة إقتصادية لتحفيز الاقتصاد في ظل عجز مالي واضح من قبل الدولة عن القيام بهذه المهمة؛
رابعًا – عامل الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص وأهمّيته في إعادة إحياء مرافق الدوّلة ومن خلفها الماكينة الاقتصادية بشكل كبير؛
خامسًا – مُعالجة المُشكلة الهيكلية في القطاع العام وعلى رأسها عدد الموظّفين (مثلا إدخالهم ضمن الشراكة بين القطاع العام والخاص) وإلغاء المؤسسات والوزارات غير المُجدية؛
سادسًا – خطّة الحكومة فيما يخصّ الأمن الغذائي للمواطن في المرحلة المقبلة والتي يجب أن تكون الهمّ الأول للحكومة سواء كانت أصيلة أو مُستقيلة؛
مشروع إنكار الواقع
إنكار المشروع للواقع السيىء الذي يعيشه لبنان يتجلّى في العديد من مواد الموازنة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
تنصّ المادّة الخامسة “الإجازة بالإقتراض”، على الإيجاز للحكومة إصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية، مُتناسية أن الدولة أعلنت إفلاسها وبالتالي أصبح من المُستحيل إيجاد مُقرضين للدوّلة بإستثناء مصرف لبنان الذي، وتحت الضغط، سيقوم بطبع العمّلة لتغطّية عجز الموازنة المُقدّر بـ 6.85 تريليون ليرة لبنانية!
تُحدّد المادة السادسة “أصول إنفاق الهبات والقروض الخارجية” مُتناسية أن المُجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع السلطة التنفيذية للدولة اللبنانية فيما يخصّ الهبات التي يُرسلها حصرًا إلى الجمعيات وإلى الجيش اللبناني. وقد تناست المادّة أيضًا أنه وبإستثناء قرض البنك الدولي الذي أتى بشكل إستثنائي جدًا لوقف ديناميكية الفقر الخطرة، لا يوجد مؤسسات دولية أو دول جاهزة لإقراض لبنان بعد إعلان الإفلاس كما أنه وتحت الضغط السياسي، تمّ ربط كل مساعدة دولية بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
المادّة الثالثة عشرة تنصّ على إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة بقيمة 1500 مليار ليرة لتسديد عجز شراء المحروقات وتسديد الفوائد وأقساط القروض لصالح مؤسسة كهرباء لبنان. هذه المادّة هي إنكار كلّي لمُشكلة تمويل شراء المحروقات خصوصًا أنه ومع سعر صرف السوق السوداء لم تعد هذه السلفة كافية لشراء ما كان يتمّ شراؤه سابقًا. أمّا تسديد فوائد الديون على القروض لصالح كهرباء لبنان، فالكل يعلم أن لا جدّية في هذا النصّ نظرًا إلى أن خزينة الدولة هي من تحمل هذه الديون وبالتالي سيتمّ تحميلها لحاملي سندات الخزينة عبر عملية الهيركت! في الواقع، أصبح من المعلوم أن مصرف لبنان قام بإعطاء تسهيلات بالدولار لوزارة المال (Overdraft) بقيمة 15.6 مليار دولار أميركي. وبحسب المنطق، يُمكن القول إن قسمًا كبيرًا من هذا المبلغ تمّ إستخدامه لشراء المحروقات وسداد ديون مُتوجّبة على خزينة الدولة. وهذا الأمر لم يعد ممكناً الآن!
تنصّ المادّة الثامنة عشرة على تعديل قوانين البرامج التي من المفروض أن إعتماداتها مؤمّنة، إلا أن ما يتمّ القيام به عمليًا هو تأجيل هذه البرامج من عام إلى آخر على إمتداد السنين. هذا الأمر بإعتقادنا يعني أن الحكومة غضت الطرف عن القيام بمشاريع إستثمارية ذات منفعة إقتصادية يكون لها تأثير إيجابي على النمو الإقتصادي الوحيد القادر على إخراج لبنان من مأزقه الحالي (!).
المواد 19 إلى 58، تتناول الضرائب وتحوي على الكثير من الإستثناءات والتسويات. المُشكلة الجوهرية تكمن في أنه على الرغم من وقف دفع سندات الخزينة (بالليرة والدولار الأميركي)، هناك عجز هيكلي مُستمر وتعود أسبابه إلى الحوكمة المالية مما يفرض إعادة هيكلة للقطاع العام بكل أشكاله. أضف إلى ذلك أن ضعف النشاط الاقتصادي خفضت من المداخيل الضريبية على مثال الضريبة على القيمة المضافة التي إنخفضت من 28% من إجمالي المداخيل في كانون الثاني 2019 إلى 11% في تشرين الأول 2020! وبالتالي فإن تحفيز الاقتصاد هو العنصر الأساسي الذي يجب العمل عليه لإعادة رفع مداخيل الدولة اللبنانية. كما يجب ملاحظة أن قرارات الإقفال التي طالت الاقتصاد أدّت إلى ضرب المداخيل بشكل كبير على مثال ما حصل في حزيران 2020 حيث شكّلت نسبة مُساهمة الضريبة على القيمة المضافة فقط 8.8%!
المادة ستون تُعنى بتعديل رسوم المرافئ والموانئ. على هذا الصعيد من الملاحظ، أن هذه المادّة لا تُعالج مُشكلة المداخيل من ناحية رفع الدولار الجمّركي بطريقة نسبية بحيث تسمح في آن واحد برفع المداخيل – محاربة التهريب – وتأمين الأمن الغذائي.
المادة التاسعة وتسعون تعفي المخالفين من إشغال الأملاك العامة بنسبة 90% من دون أي تحفيز على إستخدام هذه الأملاك في الماكينة الإقتصادية. وبالتالي سيستمر المخالفون بالمخالفة ولن يدفعوا الغرامات ولا البدلات على الإشغال معرفة منهم أنه سيتم إعفاؤهم العام المقبل أيضاً. ومع إنخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق السوداء، أصبح عندهم مصلحة إنتظار إنهيار سعر الصرف أكثر وهو أمر كان يجب مُعالجته من خلال إعتماد التضخّم كمؤشّر (Index) لحجم هذه الغرامات.
المادّة الثالثة والسبعون تنصّ على إعفاء الشركات الدامجة (دون المصارف) من ضريبة الدخل على الأرباح لمدة محدودة وضمن شروط مُعيّنة من الواضح أنها لا تنطبق إلا على فئة معيّنة من الشركات في لبنان!
المادّة الرابعة والسبعون تنصّ على إعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية من الضريبة على مدى ثلاث سنوات. وإذا كانت هذه الخطوة هي خطوة جيدة بالمُطلق، إلا أنها وفي ظل غياب الثقة بالقطاع المصرفي، لن تعُطي أي مفعول على الأرض إلا بعد أن يتمّ إعادة هيكلة المصارف في لبنان. وبالتالي تبقى هذه المادة منسلخة عن الواقع وبلا أي قيمة فعلية.
الموازنة والتهريب
من النقاط الغائبة عن مشروع الموازنة مسألة مكافحة التهريب. وقد يقول البعض أن هذا الأمر هو إجرائي وبالتالي لا ضرورة لوجوده في الموازنة، إلا أن الواقع يقول غير ذلك، فمُكافحة التهريب لها تداعيات في العديد من مواد الموازنة مثل بند قبول الهبات أو بند الإستثمارات أو غيرها. أضف إلى ذلك الطابع المُلزم للحكومة لتنفيذ القانون والذي يلغي كل حجّة قد تعتمدها الحكومة لوقف التهريب.
الجدير ذكره أن التهريب مسؤول عن 50 إلى 70% من الهدر الحاصل في الدعم حاليًا وبالتالي يُمكن القول إن 50 إلى 70% مما قدمه مصرف لبنان من دولارات ذهب في التهريب حيث أن المُستفيد (المالي) الأول هو التجّار وعصابات التهريب. من هذا المُنطلق، هناك ضرورة قصوى لوقف دعم المحروقات نظرًا إلى أن 30% من حجم الإستيراد هو للمحروقات التي يتمّ تهريب ما يزيد عن 70% منها تحت أنظار (أو رعاية) الدوّلة!
الأمن الغذائي والبطاقة التموينية
المواجهة بين الرئاستين الثانية والثالثة، تجعل من البطاقة التموينية مشروع حبر على ورق، ويدخل ضمن تسجيل النقاط لا أكثر ولا أقل. فطرح حكومة دياب للبطاقة التموينية على أن يتمّ تمويلها من مصرف لبنان هو أمر مُستحيل أن يمرّ نظرًا إلى أن دفع البطاقة بالليرة اللبنانية سيدفع بالكتلة النقدية إلى مستويات لا مثيل لها، وبالتالي إلى مزيد من التضخم والتآكل للعملة بحيث تصير البطاقة نفسها عاجزة عن أداء ما صنعت لأجله، يضاف إلى ذلك مزيد من ارتفاع نسبة الفقر إذ ستنضم من جراء
هذا التضخم المفرط فئات أخرى كانت على حافة الفقر أو تكاد.
أما الإعتماد على دفعها بالدولار، فأمام إنسداد المصادر والتمويلات الخارجية لا يبقى هنالك مصدر إلا أموال المودعين أي ما تبقى من الإحتياطي الإلزامي وهو ما ترفضه أغلبية الكتل في المجلس النيابي، إلى جانب المساءلة القانونية التي قد تترتب على المصرف المركزي، إن من المصارف، إذ الاحتياطي حقها وقد أودعته أمانة لدى المصرف المركزي، أو من المودعين أنفسهم إذ هو من قبيل الضمانات لودائعهم المصرفية. تقول بعض المصادر إن الرئيس حسان دياب يُريد من وراء ذلك أن يُلقي بكرة النار في ملعب المجلس النيابي عبر القول إن حكومته قامت بما عليها وبالتالي أتى دور المجلس النيابي الذي يرفض تلقف هذه الكرة على بعد عام من الانتخابات النيابية.
فإذًا البطاقة التموينية هي أداة لإشغال الرأي العام أكثر منها مشروع حقيقي قابل للتنفيذ. من هذا المُنطلق، هناك ضرورة لبروز “أم للصبي” التي عليها أن تُضحّي في مكان ما لتأمين البديل عن رفع الدعم وعدم وجود بطاقة تموينية. وهنا تتوقع مصادر أن يكون هناك مفاجأة في الأسابيع المقبلة.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن الوقت المتبقي حتى أخر الشهر هو الفرصة الأخيرة أمام السلطة لإستدراك الكارثة التي ستحصل إبتداءً من مطلع الشهر المقبل. والتاريخ سيحكم سلبًا أم إيجابًا على كل من قام أو لم يقم بالإجراءات الضرورية للجم هذه الحالة الشاذة وإستدراك الأزمة المستفحلة.