عزة الحاج حسن – المدن
لم يعد الحديث عن تراجع القدرة الشرائية لرواتب الموظفين والعاملين ورجال الأمن في لبنان دقيقاً، بعد أن انتقلت فئات واسعة من محدودي المداخيل إلى مرحلة ما بعد الضائقة، وهي انعدام القدرة المعيشية.. ولا نعني بذلك العاملين بالحد الأدنى للأجور، 675 ألف ليرة (نحو 50 دولار) وحسب، بل أولئك الذين يتقاضون ضعفي وثلاثة وأربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور. هؤلاء أيضاً باتوا عاجزين تماماً عن تأمين غذاء عائلاتهم على مدار 30 يوماً، بعد بلوغ مستوى تضخم الأسعار في لبنان مستويات قياسية، وانهيار الليرة مقابل الدولار وبلوغه 15 ألف ليرة منذ فترة.
لم تعد وظيفة القطاع العام مغرية. لا، بل تحولت اليوم إلى ورطة، خصوصاً لدى الأجهزة الأمنية التي يُحظّر على عناصرها ممارسة أي أعمال أو مهام أخرى إلى جانب مهامهم الأمنية، يقول أحد عناصر الجيش اللبناني (محمد. أ) في حديث إلى “المدن”. فالراتب الذي يتقاضاه لم يعد يكفي لتأمين معيشته وزوجته وطفلته (سنة ونصف السنة) على مدار أسبوع واحد فقط.
تطوع بالمعنى الحرفي
انهارت الليرة اللبنانية، بعد تراجع دراماتيكي استمر منذ أواخر العام 2019 وحتى اليوم. فقدت نحو 90 في المئة من قيمتها، وسُلبت معها قيمة رواتب غالبية اللبنانيين المقوّمة بالليرة. فتدنّت قيمة راتب الجندي في الجيش اللبناني من 800 دولار (أي نحو مليون و200 ألف ليرة) إلى أقل من 100 دولار حالياً، حتى بات عمله أشبه بالتطوع بالمعنى الحرفي للكلمة.
وكيف لا يكون تطوّعاً مجانياً في حين أن الجندي م. أ. يتكبّد ما يقارب راتبه الشهري على المواصلات بين منزله الكائن في منطقة البقاع ومركز خدمته في الجيش في منطقة الجنوب. فهو يحاول قدر الإمكان توفير ثمن المواصلات، فيتعمد الانتقال لأكثر من محطة بين البقاع والجنوب أحياناً، عن طريق أحد الأقارب أو المعارف. لكن هذا الأمر لا يتوفر بشكل دائم “فأنا أخدم بالجيش يومين ويؤذن لي يومين. أي يومي خدمة ويومي إجارة. وهذا الأمر يرتّب علي أكثر من مليون ليرة شهرياً، في حين أن راتبي لا يتعدى الـ1250000 ليرة”.
حسومات واستنزاف
ويشكو الجندي الحسم الإلزامي الذي يطرأ على راتبه بين رسم تقاعد 72000 ليرة، وطبابة واستشفاء 18000 ليرة، وبدل نقل وصيانة 2000، وبطاقة صحية 9000 ليرة، واشتراك جهاز الإسكان 20000 ليرة، ومجلة صدى الثكنات 1000 ليرة، وضريبة الدخل 9000 ليرة، وبدل اشتراك تعاضد 40000 ليرة، ومساعدات ورثة 6000 ليرة، ومجلة الجيش 5000 ليرة، وتغذية 5000 ليرة.
ويأسف لكون هذه الحسومات تستنزف راتبه، وإن كانت ضئيلة ويبلغ مجموعها نحو 178 ألف ليرة من ناحية القيمة المادية، إلا أن “قيمتها بالمقارنة مع الراتب تُحدث فارقاً كبيراً، خصوصاً بالنسبة إلى شخص يعجز عن تأمين غذائه وعائلته على مدار الشهر. فهي تشكّل أكثر من 14 في المئة من إجمالي الراتب” يقول الجندي، الذي يفكّر جدّياً بترك السلك العسكري والتقدّم بطلب هجرة إلى كندا، حيث يعيش بعض أقربائه “لا أريد أن أتحول إلى متسول عاجز عن تعليم طفلتي وتأمين حاجيات زوجتي”.
تقشف بالأكل
حال من الذهول تسيطر على العسكريين، جراء ممارسات وإجراءات يتم اعتمادها بشكل يومي، تعكس الضيقة المالية التي تمر بها البلاد عموماً، والمؤسسة العسكرية خصوصاً. يقول الجندي ح.ح من عكار في حديثه إلى “المدن”: فلطالما كنت أتناول وجبتي الغذاء والعشاء في موقع خدمتي العسكرية ككثير من الجنود والرتباء. وهذا الأمر كان يوفر لي جزءاً من راتبي. لكن حالياً بعد اعتماد المؤسسة العسكرية سياسة التقشف بالطعام، لم يعد مُتاحاً لي الأكل بشكل دائم، وإن تيسر ذلك، فتكون أصناف المأكولات فقيرة جداً، وكمياتها أقل من حاجة وتعداد العناصر المتواجدين في المركز.
ويقارن الجندي بين ما كان يُقدّم للعسكرين خلال خدمتهم في وقت سابق، مع ما يتم تقديمه حالياً. ويقول إن الفارق شاسع. ففي السابق كنا نتناول “اليخاني”، كالفاصوليا مع اللحم أو البطاطا بالدجاج، أو الفروج الكامل. وكنا نحصل يومياً على علب اللحم المطبوخ أو المارتديلا وزيت الزيتون والخبز والفاكهة والخضار، وكل ما نحتاجه لإعداد طعامنا. أما اليوم فباتت اليخاني عبارة عن نوع من أنواع الخضار كالكوسى أو القرنبيط أو البطاطا مع صلصة البندورة فقط. منذ أشهر تغيب كافة اللحوم والفاكهة عن وجباتنا الغذائية في الخدمة العسكرية، يقول الجندي ح.ح. “كما تغيب كافة المنتجات الغذائية الدسمة عن وجباتنا، حتى أن كميات المأكولات التي يتم تسليمها تقل في كثير من الأحيان عن حاجتنا، فيبقى عدد من العناصر من دون وجبة غذاء، ويضطرون بالتالي إلى شراء “ساندويش” من خارج المركز.
الجيش يجوع
عندما حذر قائد الجيش العماد جوزيف عون مؤخراً، من أن الضغوط المادية والمعنوية على عناصر الجيش قد تؤدي إلى انفجار، كاشفاً عن أن العسكريين يعانون ويجوعون مثل الشعب، لم يكن يبالغ، وإن كانت صرخته لم تلق آذاناً صاغية. فآلاف العناصر من الجيش يواجهون فعلياً خطر الجوع مع عائلاتهم، خصوصاً أولئك الذين تقتصر مداخيل أسرهم على رواتبهم فقط. ويكشف مصدر مطلع في حديث إلى “المدن” عن أن عشرات العناصر والضباط هربوا من المؤسسة العسكرية، ويتم التكتّم على شيوع تلك الحالات. مؤكداً تقديم تسهيلات غير مُعلنة للعسكريين الراغبين والقادرين على ممارسة مهنة أخرى في أيام إجازاتهم، أو بالأصح يتم التغاضي عنهم: “فمنهم من يعمل على استئجار سيارة مع لوحة عمومية ويعمل في منطقته، وآخرون يعملون مع مقربين منهم في مهن حرة كبيع الخضار والحدادة وغيرها، لتعزيز مداخيلهم” يقول المصدر. لكن يبقى التوجه الأساس لدى عدد كبير من العسكريين، وحتى من بين الرتباء والضباط من حملة الشهادات التخصّصية، إلى ترك المؤسسة العسكرية ومحاولة الهجرة.