جوني منير – الجمهورية
عندما شغل جو بايدن موقع نائب الرئيس الاميركي أوكل اليه باراك اوباما مهمة وساطة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، فسافر الى المنطقة، ليلمس بالمباشر مدى التعقيدات التي تحيط بالملف الاسرائيلي- الفلسطيني، والتي تقارب الفوضى في العديد من النواحي. تكفي الإشارة يومها الى اعلان اسرائيل، وبالتزامن مع زيارة بايدن، بناء مستوطنات جديدة على أراضٍ تقع في القدس الشرقية. كانت خطوة الحكومة الاسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو بمثابة إهانة واضحة لبايدن الذي فهم الرسالة الاسرائيلية جيداً.
في الواقع، فإنّ بايدن صنع تجاربه الخاصة، وهو ما جعله يأخذ قراره بالابتعاد عن الملف الاسرائيلي – الفلسطيني مع انطلاق ولايته، والتركيز على الملف التفاوضي مع ايران كأولوية مطلقة.
صحيح أنّ الرئيس الاميركي بايدن لم يتراجع عن اعتراف سلفه دونالد ترامب بالقدس كعاصمة لاسرائيل، لأنّ هذه الخطوة تحظى بتأييد واسع في الشارع الاميركي على أغلب الظن، إلّا أنّه تمسّك بالبقاء على مسافة من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو. وهكذا مرّت ثلاثة اسابيع بعد انتخابه، قبل ان يهاتف رئيس الحكومة الاسرائيلية، وهو ما لم يكن يحصل مع أسلافه. كما أنّه لم يعيّن مبعوثاً خاصاً للملف الاسرائيلي – الفلسطيني، وهو أيضاً لم يرشح حتى الساعة سفيراً له في اسرائيل. كل تلك الإشارات كانت تعني من جهة عدم وضع الملف الفلسطيني في دائرة اولوياته، ومن جهة ثانية عدم ارتياحه للعلاقة مع نتنياهو، نتيجة التجارب السابقة الصعبة. وهذا ما جعل العديد من المراقبين يعتقد أنّ بايدن يأمل بسقوط نتنياهو ووصول يائير ليبيد مكانه الى رئاسة الحكومة. لكن انفجار الصراع العسكري طوى هذه الصفحة واعاد نتنياهو الى الواجهة الاسرائيلية ولو في المرحلة الحالية.
مارتن انديك السفير الاميركي السابق في اسرائيل، والذي شغل موقع المبعوث الاميركي للسلام في الشرق الاوسط يقول: «مشكلة الشرق الاوسط انك اذا أردت ان تدير ظهرك له فهو لن يدعك تفعل ذلك». على الأرجح هذا ما يحصل اليوم مع جو بايدن. فانفجار الصراع بالخطورة التي وصل اليها يجبر بايدن على الالتفات الى هذا الملف.
في الواقع، فإنّ التداعيات الخطيرة للصراع الحاصل تصيب بشظاياها ملف المفاوضات مع ايران. فلا شك انّ الملف الايراني ورفع العقوبات عن ايران وواقع التطبيع بين البلدان العربية واسرائيل موجودة في لهيب تطاير الصواريخ والقذائف. في الواقع فإنّ الفوضى العارمة التي أحدثها دونالد ترامب في الداخل الاميركي، كانت أكثر شدّة في الشرق الاوسط، وهي شكلّت السبب الاساسي وراء اندلاع جولة العنف الجديدة.
وكان لافتاً جمع تواقيع للجمهوريين لمطالبة البيت الابيض بوقف مفاوضات النووي في فيينا، بذريعة انّ ايران تزود حركة «حماس» بالسلاح والصواريخ المستخدمة ضدّ اسرائيل.
وزير الخارجية الاميركية انطوني بلينكن قال إنّه سيمنح الديبلوماسية بعض الوقت لرؤية ما اذا كانت ستحقق خفض التصعيد، ويمكن من بعدها متابعة الموضوع في الامم المتحدة. البرودة واضحة في كلام بلينكن، وهي تماهت مع موقف الادارة الاميركية الذي يكاد يكون في الوسط.
في المقابل، بدت اسرائيل وكأنّها تفضّل تأجيل زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الاميركية للشؤون الاسرائيلية والفلسطينية هادي عمرو الى وقت لاحق. ذلك انّ نتنياهو يراهن على أوسع تدمير ممكن يصيب البنية التحتية الحياتية والاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين، بحيث أنّه عند انتهاء القتال ستنتقل الأضواء العالمية الى مكان آخر. عندها سيؤدي البؤس الى تآكل الرصيد الشعبي الذي تحققه «حماس» خلال هذه المواجهة. في الواقع هناك وجهتا نظر في واشنطن، الأولى وهي متعاطفة مع اسرائيل، وتقول انّ «حماس» خسرت حوالى نصف قوتها الصاروخية، وأنّه لا بدّ من ترك الباب مفتوحاً امام العمليات العسكرية لإنجاز ما تبقّى قبل الانتقال الى الحلول السياسية. أما وجهة النظر الثانية، فهي تراهن على زيارة هادي عمرو المتعاطف الى حدّ ما مع الفلسطينيين، ومواكبة مجلس الأمن له، والرهان على ان يؤدي الدمار الحاصل الى الدفع باتجاه إنتاج حلول سياسية تؤسس لإنهاء الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني. لكن الواضح أنّ اصحاب هذا الرأي يبالغون في تفاؤلهم بعض الشيء.
ذلك أنّ اصحاب وجهة النظر الاولى لا يعارضون قيام الجيش الاسرائيلي بمغامرة برية محدودة، تطال منصّات الصواريخ البعيدة المدى، والتي يجري تركيزها في عمق أحياء غزة. ففي السابق كان مدى الصواريخ قصيراً، ما كان يدفع بحركة «حماس» الى تركيز المنصّات عند اطراف غزة لجعلها تصل الى ابعد مدى ممكن. أما في الجولة الحالية، فإنّ المفاجأة كانت بالصواريخ البعيدة المدى، وهو ما سمح بإطلاقها من داخل الأحياء، ما جعل ملاحقتها واستهدافها أكثر صعوبة. لكن للعملية البرية كلفتها العالية، وهو ما قد لا يستطيع الجيش الاسرائيلي تحمّله.
الأرجح أنّ المعارك لم تستنفد بعد كل اهدافها، ولذلك قد تستمر بضعة ايام اضافية. لكن المشكلة، انّه كلما طالت العمليات العسكرية كلما ازدادت الصعوبات مع الدول العربية التي أصبح لديها علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل. ذلك أنّ ثمة مخاوف من استيراد الصراع الى دول اخرى، خصوصاً تلك التي تُعتبر انظمتها ضعيفة. فإذا كانت السلطة الفلسطينية التي تلقّت ضربتين متتاليتين، واحدة بسبب تأجيلها الانتخابات وثانية بسبب قيادة مركز «حماس» للعمليات العسكرية، فإنّ هذه السلطة تعوّل ربما على إمساكها لاحقاً بملف المساعدات الاقتصادية لإعادة التوازن الداخلي الفلسطيني – الفلسطيني. لكن الارتدادات لن تكون اقل خطورة في الساحات العربية.
وفي خطاب اسماعيل هنية خلال مهرجان شعبي نادر الحصول في احدى دول الخليج العربي، كانت الرسائل واضحة وكبيرة حول الواقع السياسي الجديد الذي فرضته الجولة الحربية الجديدة.
صحيح أنّ لكلام هنية من قطر معناه البليغ، لكن الأهم صدى الخطاب في الساحات العربية القريبة. وهو ما يدفع للتساؤل ما اذا كانت ارتدادات الجولة الجديدة ستظهر لاحقاً في بعض الساحات العربية. وعلى سبيل المثال، كان اطلاق الصواريخ من جنوب لبنان محط رصد وتحليل، بمعنى من يقف فعلاً وراء هذه الرسالة، وماذا يريد بالضبط؟
صحيح أنّ صواريخ من نوع «غراد» تُعتبر شبه بدائية، إلّا أنّ امتلاكها لن يكون بيد هواة او عناصر متفلتة. وبالتالي فإنّ لإطلاقها هدفاً ما.
وبدا على الفور أنّ لا علاقة لـ»حزب الله» بعملية اطلاق الصواريخ الثلاثة، لا بل على العكس، فإنّ موقف «حزب الله» بإبقاء الوضع في جنوب لبنان مضبوطاً، أقلّه حتى الآن. فعندما ظهر أمين عام «حزب الله» خلال إطلالته الأخيرة، وجّه رسالة الى المناورات الاسرائيلية الضخمة بأنّ «حزب الله» مستعد لكلّ المفاجآت، وهو ما معناه تحذير اسرائيل من الانزلاق باتجاه أيّ عمل عسكري، كون عنصر المفاجأة لم يعد موجوداً. والواضح انّ تحذير نصرالله جاء بناءً على معلومات او تقييم للوضع. والأهم انّه هدف للابتعاد عن اي مواجهة عسكرية، في الوقت الذي تبدو فيه اسرائيل متوترة جراء الاقتراب من موعد إعادة العمل بالاتفاق النووي ووقف العقوبات على ايران. وبالتالي، فهل انّ الجهة الفلسطينية التي اطلقت الصواريخ كانت تريد جرّ «حزب الله» لفتح الجبهة الجنوبية مع اسرائيل لملاقاة «حماس»، ام انّها كانت تهدف لأبعد من ذلك وصولاً الى قصف المفاوضات الاميركية – الايرانية؟