جاء في صحيفة ” الأخبار ” : قُضي الأمر، وقرر لبنان الرسمي الركوع أمام السعودية، طلباً للغفران. أخطأ وزير الخارجية شربل وهبة في مقابلته الأخيرة، ليل أول من أمس، مع قناة “الحرة” الأميركية. الخطأ المرتكب هو في حق لبنان أولاً. مشاركته في المقابلة، ليساجل شخصيات لا صفة سياسية حكومية لها، هو خطأ بحق موقعه الوزاري. وخطأه الأكبر كان في تفوّهه بكلام عنصري ضد أبناء الجزيرة العربية، وسائر العشائر العربية والبدو، عبر استخدام الكلمة الأخيرة كشتيمة للحطّ من قدر مُساجله. أما في السياسة، فكان وهبة شجاعاً في دفاعه عن رئيس الجمهورية، وعن المقاومة، كما في تحميله دول الخليج (السعودية وقطر تحديداً)، من دون أن يسمّيهما، مسؤولية إنشاء تنظيم “داعش” وتمويله. هذه حقيقة نطق بها. لكنه في الحديث عن “داعش”، كما في تحميله الرياض مسؤولية قتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، كان يتصرّف كمعلّق سياسي لا كرئيس لدبلوماسية دولة ليس هذا موقفها الرسمي. يُضاف إلى ذلك أنه قال ما قال، فيما رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، يسعيان إلى ترتيب علاقاتهما بالسعودية.
حسناً، أخطأ شربل وهبة. أخطأ، لفظياً، بحق دولة سبق أن ارتكبت، عام 2017، لا منذ عقود، جريمة خطف رئيس حكومة لبنان، واعتقاله وإذلاله وإجباره على الاستقالة. ولم تتراجع عن جريمتها إلا بعد موقف لبناني رسمي صارم، ومواقف إقليمية ودولية أجبرتها على التراجع. وحتى اليوم، لم تعتذر، ولا طلب منها لبنان الاعتذار.. ولا حتى التوضيح.
السعودية (جرّت خلفها باقي دول الخليج) استدعت السفير اللبناني لدى الرياض، فوزي كبارة، لتسلّمه مذكّرة احتجاج شديدة اللهجة، طالبة القيام بما يلزم لتصحيح الأمور. ونطق سفيرها في بيروت، وليد البخاري، باسم مجلس التعاون الخليجي، ليطلب من وزير الخارجية اللبناني اعتذاراً رسمياً من دول المجلس.
الوزير وهبة كان قد أصدر بياناً اعتذر فيه عن “بعض العبارات غير المناسبة التي صدرت مني في معرض الدفاع عن فخامة رئيس الجمهورية”. وأكّد أنه لم يكن يقصد الإساءة إلى “أي من الدول أو الشعوب العربية”.
في أيّ نموذج من العلاقات بين دولتين، يمكن لحدث مشابه أن يُعدّ أزمة دبلوماسية عادية تُعالج بالطرق الرسمية المعتادة. وأول العلاج الاعتذار العلني الذي أصدره الوزير. لكن، بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أن الرياض تريد استغلال ما جرى بهدف إذلال لبنان. جوقة المطبّلين للمملكة زايدوا عليها حتى كادوا يعلنون الحرب على لبنان. والمفارقة أنّ غالبيتهم العظمى لهم تاريخ من التعامل الذيلي مع دول الخليج، إلى حدّ أنهم إما شاركوا السعودية عام 2017 مؤامرتها على رئيس الحكومة اللبنانية، وإما أنهم صفّقوا لها، وفي أحسن الأحوال، لاذوا بالصمت. لكنهم، وزملاءهم المنضمّين إليهم حديثاً، وعلى رأسهم المحرَّر من الريتز سعد الحريري، تعاملوا مع تصريح وهبة كما لو أنه لا سابق له في تاريخ العلاقات الدولية، وأنه مبرّر لتشديد الحصار على لبنان وطرد اللبنانيين من الخليج. بعض وسائل الإعلام المموّلة من السعودية بشّرت منذ ليل أول من أمس بأن الرياض قد تقدم على إبعاد اللبنانيين الذين يعملون على أراضيها. مرة جديدة، يجري تثبيت صفة الرهائن على هؤلاء المغتربين، وهي الصفة التي تلازمهم منذ ستينيات القرن الماضي، أيام اختارت السعودية عدواً لها يُدعى جمال عبد الناصر، وأرادت من لبنان أن يصطفّ خلفها في مواجهة القائد العربي الأول.
السعودية، ومعها دول الخليج، رفضت اعتذار وهبة. طالبت بجولة إذعان وإذلال، على سفاراتها، يقدّم فيها اعتذاراً خطياً. رفض وهبة ذلك، وهو غير المتمسك أصلاً بوزارة ما كاد يدخلها حتى صارت تصرّف الأعمال في غياب فريق عمل واستراتيجية دولة.
الدولة اللبنانية قررت القيام بجولة الإذلال والإذعان، نيابة عن شربل وهبة. سريعاً بدأ البحث عن بديل له، ولو بإجراء غير دستوري: أن يعتزل العمل الوزاري، ليحلّ محله وزير الخارجية بالوكالة. لكن الوكالة بيد دميانوس قطار، الوزير الذي يرفضه رئيس الجمهورية واختلّت علاقته برئيس الحكومة حسان دياب مذ قرر أن يسبقه إلى الاستقالة. حسناً، فلتكن غادة شريم. رسا الخيار عليها، إلى أن أدخل التعديل ليلاً، واتفق الرئيسان على إسناد حقيبة الخارجية، بالوكالة، إلى الوزيرة زينة عكر.
هكذا، ببساطة شديدة، قرر لبنان الركوع للسعودية. مشكلة دبلوماسية يمكنها أن تكون عابرة، لكنه آثر الخضوع لاعتبارها “آخر الدنيا”. طبعاً، لبنان ليس الولايات المتحدة الأميركية التي يهين رئيسها ملك السعودية ووليّ عهده مراراً وتكراراً، من دون أن تطلب منه ولو توضيحاً لكلامه. وليس المتوقع، تبعاً لموازين القوى، أن تكون بيروت كواشنطن. كان المطلوب، كل المطلوب، الحفاظ على ماء الوجه، ولو قليلاً. ربما من حظّ شربل وهبة السيئ أنه أخطأ في زمن التقارب العوني السعودي ــــ بُغضاً بسعد الحريري ــــ فكان أضحية العيد غير السعيد.