خضر حسان – المدن
تواصل الصيدليات إقفال أبوابها بقرار جماعي للإضراب، أو بقرارات فردية يحددها وضع كل صيدلاني. والسبب شحّ الدواء بصورة مقلقة تهدد الأمن الصحي للمواطنين.
لكن في المقلب الآخر، يؤكد مصرف لبنان مواصلته دعم استيراد الدواء والمستلزمات الطبية وحليب الأطفال. بل أن معدّل الاستيراد ارتفع للعام الحالي مقارنة بالعام الماضي. بحيث زادت فاتورة الاستيراد من نحو مليار 173 مليون دولار إلى نحو مليار و232 مليون دولار. فأين هي الأدوية الفائضة؟
عوائق الاستيراد
يفنّد المركزي عملية دعم الاستيراد، ويقسم إجراءاته لثلاثة أقسام. فمنذ بداية العام الجاري ولغاية 20 أيار، غطّى المركزي فواتير استيراد بنحو 485 مليون دولار، فيما يدرس حالياً فواتير بنحو 535 مليون دولار، وتسلَّمَ نحو 507 فواتير، لم يوافق عليها بعد، ما يجعل مجموع الفواتير المغطّاة بالدولار المدعوم، مليار و232 مليون دولار.
يريد المركزي لهذه الأرقام أن تكشف ثغرة في جدار شحّ الدواء. والأرقام رسالة غير مباشرة للمستوردين، تقول لهم بأن معدّل استيراد الدواء قد ارتفع، ولا مشكلة بتأمين الدولار المدعوم، فلماذا تفرغ الصيدليات من الأدوية؟
مصادر صيدلانية تجد في أرقام مصرف لبنان إدانة له، لا للصيادلة أو المستوردين. لأن المركزي يؤخّر الموافقة على الدعم، ما يؤخّر الاستيراد، فيرتفع الضغط على الصيدليات، وينفذ الدواء. وبحسب ما تقوله المصادر في حديث لـ”المدن”، فإن “انتشار فيروس كورونا زاد الطلب على الدواء. فضلاً عن لجوء المواطنين للتخزين خوفاً من ارتفاع الأسعار بعد رفع الدعم الذي قد يُقَر في أي لحظة”.
وتضيف المصادر أن “الأدوية الموجودة في بعض المستودعات، ليس بالضرورة أن تكون مُخَزَّنة بهدف رفع أسعارها لاحقاً، فأغلب عمليات التخزين تحصل بفعل تأخّر مصرف لبنان في تغطية الدولار، ما يدفع المستوردين إلى عدم بيع البضائع في السوق قبل تأمين ثمنها”.
من ناحية ثانية، “عندما يستورد التاجر كمية من الأدوية، لا يمكن التفريط بكامل المخزون، لأن حجم الطلب سيُبَخِّر المخزون خلال أيام قليلة. لذلك يتم اللجوء إلى للتقنين”.
الهدف ترشيد الدعم
تماطل المنظومة الحاكمة إقرار ترشيد الدعم الآتي لا محالة. فلا تريد تفجير قنبلة تحملها بيدها. فترشيد الدعم هو مقدمة لرفعه كلياً. لكن الترشيد أيضاً يحتاج لقرار سياسي واضح يأخذ بالاعتبار مصالح الناس لا التجار. وحكومة المنظومة لا تقوى على حمل تداعيات الترشيد، فالمواجهة الشعبية ستكبر، والضغوط المعيشية ستزداد.
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يرى ميزان الحق من منظار الحكومة، بل من خلال حجم الكتلة النقدية المتبقية للدعم بشكله الحالي. وبعيداً عن سياساته النقدية الهدّامة، في هذه اللحظة لا دولارات كافية لاستمرار الدعم.
ولذلك، يريد سلامة الإضاءة على الواقع من بوابة التهريب والتخزين، طالما أن معدّل الاستيراد ارتفع. فتبيان ارتفاع معدّل الدعم، يبرهن للحكومة ضرورة الترشيد كي لا تُفقَد الدولارات كلياً.
مسرحية اللجان
تستغرب وزارة الصحة ولجنة الصحة النيابية والتفتيش الصيدلي في الوزارة وكافة الأجهزة والمؤسسات الرقابية، فضائح المستودعات الفاسدة والمخزّنة. وتسارع الوزارة – وهي المسؤول الأبرز عن الملف الدوائي – إلى تشكيل لجنة تقصّي الحقائق، ريثما تجد فيلها المختبىء خلف إصبع طفل.
الفيل لا يستطيع الاختباء خلف إصبع طفل، وكذلك إنكار وجود مخازن ممتلئة، ويتذرع أصحابها بالروتين الإداري لمصرف لبنان. وللذهاب بعيداً، لماذا لا تحقق الوزارة بصورة شفافة؟ جلّ ما تفعله الوزارة في الوقت الراهن هو تشكيل لجنة. وفي لبنان اللجان مقبرة التحقيقات وميدان واسع للتضليل.
كما أن المركزي، برأي المصادر، “لا يعطي الموافقات للمستوردين بصورة صحيحة وكافية. لكن بما أن أسماء المستوردين ومخازنهم معروفة، فليتم التدقيق والمحاسبة.
ليست مسؤولية المواطن
في التناحر المستمر بين المركزي والوزارة والصيادلة والمواطنين، الخاسر الأبرز هو المواطن الذي “أُدخِلَ في دوامة البحث عن الدواء والتفكير بملف الدعم وترشيده أو رفعه كلياً أو استمراره”. أما تأخر المركزي ببتّ ملفات الدعم وتأخير الموافقات، فهو “ذريعة يستخدمها التجار لتخزين الدواء أو تهريبه أو إعادة تصديره للخارج بهدف الحصول على دولار طازج”، وفق ما يقوله رئيس الهيئة الوطنية الصحية، اسماعيل سكرية، في حديث لـ”المدن”.
ويؤكد سكرية أن “التجار يخزّنون. فتجربة عقود من العمل في هذا الملف، تبرهن التخزين والسعي لتحقيق أرباح خيالية في ظل الأزمات”.
لا خيار محسوماً في هذا الملف. كل طرف يشد الحبل لصالحه، فالتجار يؤكدون بحسب رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي، أنهم “يملكون الدواء في المخازن، لكن يريدون موافقة مصرف لبنان على دعم الدواء بسعر صرف 1515 ليرة، في وقت يقول المصرف المركزي أن كل الأدوية التي وصلت إلى لبنان مدعومة”.
ومَن لم يعجبه شد الحبال، يقفل أبواب صيدليته أو مستودعه أو وزارته ويدير ظهره، ويتّجه أحياناً إلى مواقع التواصل الاجتماعي ليكتب تغريدة حول الدعم وترشيده والفساد في قطاع الأدوية، لكن أحداً لم يُلق القبض عليه، ومستودعاً لم يُقفَل ويُداهَم بالشكل الصحيح. ولا مسؤولاً في منصب كبير، جرت مساءلته عمّا بين يديه من معطيات وصلاحيات.
وحده التعويل على النقابات قد ينفع، لكن بالتأكيد ليس نقابة الصيادلة. كما لا يُعَوَّل على وزارة الصحة ومصلحة التفتيش فيها. فمَن يريد حماية المواطنين، هو نفسه تاجر الأدوية المفترض به أن ينطق بحُكمٍ يدين نفسه.
إلى ذلك، يدق المركزي ناقوساً، قد يكون خطراً وقد لا يكون في الوقت الحاضر. فيما نواقيس المستقبل ستنكسر من شدّة القرع، نظراً لفداحة الأزمة المرتقبة.