غسان ريفي – سفير الشمال
في مثل هذا اليوم قبل واحد وعشرين عاما، بزغت شمس الحرية من الجنوب على كل لبنان، وإندحر الاحتلال الصهيوني الذين فرّ ضباطه وجنوده والعملاء الى خارج الحدود بعدما أثخنتهم ضربات المقاومة، وشعر اللبنانيون كما كل العرب بنشوة الانتصار غير المسبوق على الصهاينة الذين ما إعتادوا إحتلال أرض والخروج منها صاغرين كما حصل في أرض الجنوب اللبناني المعمّدة بدماء الشهداء والمزروعة بأجسادهم الطاهرة.
يطل عيد المقاومة التحرير هذا العام على واقع مأساوي يرخي بظلاله القاتمة على اللبنانيين الذين إستأسدوا على الاحتلال ودحروه متحصنين بوحدتهم ومقاومتهم، وكسروا قيود الأسرى في معتقلات الخيام وأنصار وأخرجوهم الى الحرية، ليجدوا أنفسهم اليوم أسرى “إحتلال” جديد تفرضه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونزلاء “معتقلات” يديرها جلادو الكهرباء والمحروقات والأدوية والمواد الغذائية ولقمة العيش.
دحر اللبنانيون الاحتلال، لكنهم أخفقوا في تحرير وطنهم من سلطة سياسية حاكمة تمارس بحقهم شتى صنوف العذاب الذي يُترجم في يومياتهم المشتعلة بنار الدولار ولهيب الغلاء.
سلطة تكاد تكون أسوأ من الاحتلال كونها تقتل شعبا بكامله وتقوده الى الدرك الأسفل من جهنم، بفعل خلافات تتمحور إما على حصص أو على مكاسب، أو على مصالح أو لأمور شخصية تمنع تشكيل حكومة لانقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
سلطة تتلذذ بآلام اللبنانيين أكثر مما تفنن العدو بتعذيبهم، خصوصا أن العذاب الجسدي قد ينتهي وتذهب آثاره بمرور الزمن، لكن العذاب المعيشي الذي تمارسه السلطة أشد فتكا وأكثر تأثيرا كونه بدأ يهدم مستقبل الأجيال، فهي لا تبادر الى مواجهة الأزمات أو حماية المستهلك من جشع الجلادين التجار، أو توفير البطاقة التمويلية، أو بإعطاء بعض من أمل، فيما تلعب على مدار الساعة بأعصاب المواطنين بعذاب معنوي يتجسد بالتخويف من رفع الدعم وما يمكن أن ينتج عنه من فقر أفقي، ومن إفلاس الدولة وعدم قدرتها على دفع الرواتب، ومن العتمة التي سترخي بظلامها على الليالي، ومن المصارف التي تبخرت فيها أموال المودعين، ومن الأمن المتفلت الذي قد يتحول الى فوضى عارمة أو حرب أهلية.
سلطة لديها عملاء كُثر يُشغلون الناس بثورة هنا، وإنتفاضة هناك، وبتحريض طائفي وشحن مذهبي، وبنشوة إنتصار الرئيس المكلف على رئيس الجمهورية في جلسة مجلس النواب، وبقدرة وفاعلية رئيس الجمهورية على إحراج الرئيس المكلف بالرسالة التي وجهها بشأن تشكيل الحكومة، وببطولات رئيس التيار الوطني الحر، وبإمكانية إعتذار زعيم تيار المستقبل عن تشكيل الحكومة، أو إستقالة رئيس البلاد أو إجراء إنتخابات نيابية مبكرة، فيما المواطنون يقبعون في “زنازين” الذل المعيشي التي حولتهم الى متسولين ينتظرون الإعاشات والمساعدات من فاعلي الخير أفرادا كانوا أم مؤسسات إغاثية محلية أو عربية أو أجنبية.
لا شك في أن اللبنانيين الذين يحتفلون اليوم بعيد المقاومة والتحرير معطوفا على إنتصار غزة في فلسطين، يشعرون بالهزيمة أمام إحتلال من نوع جديد تفرضه سلطة سياسية جاثمة على صدورهم تسلبهم كرامتهم وآدميتهم وتهيمن على تفاصيل حياتهم، من دون رادع من أخلاق أو وازع من ضمير، أو حس وطني يدفعها إما الى تشكيل حكومة إنقاذ أو الى إستقالة جماعية يكتمل معها عيد التحرير..