خضر حسان – المدن
قادَ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أسرع انقلاب على القضاء والشعب معاً، منتصراً بذلك للمصارف التي تحكم البلاد بالشراكة مع أحزاب السلطة. إذ زَفَّ الحاكم من قصر بعبدا، خبر استمرار العمل بالتعميم رقم 151، القاضي بإعطاء المصارف حق الإفراج عن دولارات مودعيها بالليرة اللبنانية بسعر 3900 ليرة للدولار الواحد، بعد أن كان قد أعلن في وقت سابق إلتزامه بقرار مجلس شورى الدولة، وقف تنفيذ التعميم، وبالتوازي إعطاءه المصارف حق تسليم الودائع الدولارية بالليرة وفق السعر الرسمي للصرف، أي 1500 ليرة.
اجتماع الأضدّاد
استطاع قرار شورى الدولة -عن غير قصد- توحيد طرفان متناقضان يسعى أحدهما للإطاحة بالآخر. فخرج سلامة وعون من اجتماع يوم الخميس 3 حزيران، بصورة بطلَين أنقذا المودعين من أنياب مجلسٍ كاد بتسرّعه أن يطيح بما تبقّى من ودائع في المصارف. وعلى المودعين في هذه الحالة، شكر رئيس البلاد ورأس مصرفها المركزي.
فجأة، لم يعد سلامة بنظر عون وأتباعه وحلفائه، سبب أزمة البلاد وتضييع أموال الناس، بل أصبح حاميها الذي أعاد الانتظام إلى قطار سحب الودائع على سعر المنصة الوهمية، البعيدة عن حقيقة السوق. وبلحظة تجلٍّ تشبه وحيَ الأنبياء، تلاشى الخوف على هيبة القضاء واستقلاليّته، وأضحى تأديب القضاء أمراً واجباً لحماية القضاة من الانزلاق إلى مستنقع إعادة الحقوق لأصحابها، إذ لم يستسغ عون وسلامة ركون رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس إلى القانون وتعليقه العمل بالتعميم رقم 151، استناداً إلى عدم وجود قانون ومبرر يجيز للمصارف ومصرف لبنان تغيير عملة الحساب المصرفي، وإلزام صاحب الحساب إخراج أمواله بعملة أخرى من دون موافقته، طالما أن نص العقد بين المودع والمصرف، يحدد عملة الأموال المودعة. خاصة وأنَّ الوديعة هي أمانة لدى المصرف لا يمكنه التصرف بها كما يحلو له، ويجب عليه إعادتها لصاحبها متى أراد أو وفق شروط التعاقد، وهي حُكماً مغايرة للطريقة التي يعتمدها المركزي والمصارف.
شورى الدولة أصاب
الضجة التي أثارها رياض سلامة وتلقّفها عون، عبارة عن قنبلة صوتية تهدف إلى ترهيب المودعين. وكان قد سبقها تطبيل إعلامي من بعض القنوات التي تجهد لتلميع صورة الحاكم وإبداعاته. وقَد صوَّرَ الجميع مجلس شورى الدولة بهيئة المتسرّع، وذهب البعض إلى اتهامه بالتآمر على المودعين، وأن هناك مؤامرة ما يجب كشفها ووأدها للحفاظ على الاستقرار. وتسلَّحَ هؤلاء بالاعتراض الشعبي الذي بدأ يتبلور احتجاجاً. وللأسف، خَضَعَ الكثير من المودعين، ربما عن غير قصد، لتهويل سلامة والمصارف، فطالبوا بالحفاظ على سعر 3900 ليرة، إن كانت نتائج قرار شورى الدولة، تفضي إلى سعر 1500 ليرة.
لكن الحقيقة عكس ما بدت عليه. فمجلس شورى الدولة أصاب في قراره، وقد أوضح أن على المصارف تسليم الودائع بالعملات الأجنبية. وفي الأصل، لم يكن القرار نهائياً ليصدر سلامة قراره بتسليم الودائع بالسعر الرسمي. وإن كانت السرعة مطلوبة، فالأجدى بسلامة الالتزام بالشق المتعلق بالتسليم بالعملات الأجنبية. فلماذا تجاهلَ هذا المطلب؟.
تأديب القضاء
قبل قرار شورى الدولة، انتصر بعض القضاة لعدد من المودعين، وتحديداً في ما يتعلّق بتحويل أموال الطلاب بالدولار، بعد أن امتنع عدد من المصارف عن التحويل، رغم استيفاء المودعين للشروط المجحفة وغير القانونية التي فرضتها المصارف ومصرف لبنان.
ولأن الانتظام القانوني غير وارد في قاموس المنظومة الحاكمة، وبما أن مجلس شورى الدولة يمثّل مرجعية قضائية عليا، أصبح الخطر على أبواب المصارف، ويحتاج راهناً لتدخّلٍ يمنع تسرُّب القانون إلى مغارة القطاع المصرفي، فكان اجتماع بعبدا على شاكلة الاجتماعات الأخرى التي تدير الأزمة الاقتصادية والنقدية والأخلاقية، من منظور سياسي فئوي، لتكون الخلاصة تأديب القضاء على جرأته، وابتزاز المودعين للقبول بالـ3900 ليرة، كميزان نهائي لتقييم ودائعهم. ومَن يتمرَّد، فسيف السعر الرسمي جاهزٌ لبتر وديعته.
إعادة الأمور إلى نصابها المرسوم مِن قِبَل سلامة وشركائه، يعني تطيير ما تبقّى من الودائع. فالبلاد أمام منعطف خطير سيودي بفتات الليرة، ما يعني احتمال تحرّك المودعين متسلّحين بقرار شورى الدولة، وهو آخر ما تتمناه المنظومة المترنّحة. فكان لا بد من إبطال مفعول الانفجار المرتقب. فالمصارف ليست في وارد التنازل عن سنت واحد لصالح المودعين. أما الليرات، فالطباعة جاهزة وإن كان المقابل المزيد من التضخّم الذي يمتص أي قيمة للعملة اللبنانية. وهنا، يمكن القول بأن سرعة استهداف قرار مجلس شورى الدولة سببها النطق بلغة الدولار، فلو كان القرار يقضي بتسليم الودائع بسعر السوق أو بأعلى من 3900 ليرة بقليل، لكان بالامكان التفاوض على الرقم النهائي، فلا قيمة لكل ما يُعطى بالليرة سوى في كسب الوقت والتخفيف من مفاعيل الانفجار.