الجمعة, نوفمبر 22
Banner

رحيل المتمرد ومدمن المنفى …سعدي يوسف

محمد حجيري – المدن

رحل الشاعر العراقي سعدي يوسف(87 عاماً)، بعد الكثير من العطاء والابداع والتجارب والجدل والتمرد والمشاكسة في حياته، هذا الشاعر الذي يصعب الإحاطة بتجربته الشعرية الطويلة من خلال مقالة واحدة، ينتمي إلى موجة الشعراء العراقيين والعرب التي برزت في أواسط القرن الماضي، وجاءت مباشرة بعد جيل ما عرف بالشعر الحر، الذي أطلق على رواد تجديد القصيدة العربية من أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري والبياتي. وبرغم أنه صلة سعدي يوسف كانت “بين بين” بهؤلاء، ولكن حين سُئل الشاعر محمود درويش عن (أهم شاعر عربي). أجاب درويش ان الاهم هو سعدي يوسف. جواب درويش ينم بحسب الشاعر عباس بيضون عن نزاهة وكبر نفس، لكنه ليس ذلك فحسب، انه باعث على التفكير، فليس اعتباطاً أنه قال ذلك ولا تكرماً. يضيف عباس بيضون في فسبكة “شعر سعدي يرشحه لمكانة كهذه. منذ “قصائد مرئية”، وسعدي يواصل تجربة تجعله بين الشعراء العرب، أجدرهم بأن يكون صاحب قصيدة مفردة وعالم شعري خاص… لقد أسس سعدي لحداثة تمنح الشعر، ليس فقط تجربة كاملة، لكن أيضاً تجربة قابلة للذهاب عمقاً ولإيجاد وجهة متوالية. هو أَحد شعرائنا الكبار الذين قادهم الشعر أَو قادوه إلي التمرٌد على تعالي اللغة الشعرية، وإلى تأسيس بلاغة جديدة، ظاهرها الزهْد، وباطنها البحث عن الجوهر”…

في اعتبار محمود درويش سعدي يوسف “أهم شاعر عربي”، وتعليق عباس بيضون عليه، تطرح اشكالية “أفعل التفضيل في الشعر العربي”، فلطالما قرأنا عن اختيارات من هنا وهناك، “أمير الشعراء”، و”شاعر الشعراء”، و”بطريرك الشعراء”، و”كبير الشعراء”، كل مجموعة أو شلة شعرية تختار أيقونة وتعتبرها نبيها الشعري، من أدونيس إلى محمود دوريش مروراً بأنسي الحاج والماغوط، كل زعيم شعري له اتباع وتلامذة… بالطبع أن يقول محمود درويش ان سعدي أهم شاعر عربي، يكون للكلام وقعه، لكن فيه شيء من المبالغة، بحسب عارفي سعدي فهو “من أبرز ومن أهم”، وليس الأهم… هو شاعر التفاصيل اليومية المتشعبة، وصاحب اللغة الرشيقة والنص الشاب، اذ خفف من البلاغة المفرطة في الشعر العربي، ولم يرتكز كثيراً على الاستعارة. ويقول الشاعر البحريني قاسم حداد “سعدي يوسف هذا الشاعر الرقيق، برشاقته التي لا تحتمل. سوف تأسرني دائما قدرته على الانتقال بين الكلمات والجمل والتجارب”… ففي نهاية الستينيات ظهرت الملامح البارزة لأسلوب سعدي الشعري الذي تميّز بدقة الصورة وشفافية المعنى متجنبا الخطابية والأدلجة في موضوعه الشعري. بإصراره شبه اليومي على كتابة الشعر كما يبدو من تواريخ قصائده، ينطلق في شعره من حدث أو من تفصيل يومي.

***وُلد سعدي يوسف في قرية ابي الخصيب، في البصرة، العراق عام 1934، أكمل دراسته الثانوية في مدينة البصرة وتخرج في دار المعلمين العالية في بغداد 1954 وحصل على إجازة في آداب اللغة العربية وعمل في التدريس والصحافة الثقافية، “وتنقّل بين بلدان شتّى، عربية وغربية، شهد حروباً، وحروباً أهلية”… وقضي جل عمره في الكتابة والترجمة. أنضم سعدي يوسف الى الحزب الشيوعي العراقي في شبابه واعتبر نفسه شيوعياً طيلة حياته وسجن عدة مرات بسبب انتمائه السياسي. يقول في مقابلة لـ”أخبار الأدب” المصرية: “شيوعي في سنٌ مبكِرة !حقا، كنت في الخامسة عشرة حين انضممت إلى الحزب الشيوعي العراقي. الدوافع: الفقر والمغامرة. ليست لي تجربة في العمل السياسي. اعتنقت الشيوعيةَ منطلَقا في الحياة، تحوَّلَ مع الزمن والممارسة إلى منطلَق في الفن، أي أن نظرتي إلى قضايا فنية صِرف مثل الصورة وتناول التاريخ والخصيصة اللغوية والاتصال تستمدّ الكثير من الفكر الماركسي. التزام الشاعر هو التزام أخلاقيٌ”. يضيف “وكما قال أفلاطون: الأخلاق قبل السياسة. تجربتي مع الحزب الشيوعي العراقي عاديٌة، بمعنى أنني لم أخضْ في إشكاليات تنظيمية أو فكرية لأنني لم أكن عضوا بالمعني التنظيمي الدقيق إلاٌ فترة قصيرة جدا. ولست مَعْنيٌا الآنَ كثيرا بمتابعة الجدل القائم حول ما يفعله الحزب الشيوعي في العراق هذه الأيام. وعلى أي حال، سأظلّ الشيوعي الأخيرَ في عالَم يزداد قسوة”.

في منتصف الخمسينيات سافر الى موسكو ليحضر ملتقى للشباب مما جعل رجوعه للعراق خطراً، اضطر حينها للانتقال للكويت حيث عمل بالتدريس ليعيش رحلة التمرد. رجع إلى العراق مع ثورة 1958، وفي أعقاب الإنقلاب الذي قاده حزب البعث في الثامن في فبراير/ شباط 1963 ألقي القبض عليه وسجن، يقول لـ”أخبار الأدب”: “تنقلت في سجون عدة، سجن البصرة، سجن نقرة السلمان الصحراوي على الحدود العراقية السعودية، عند بادية السماوة التي قتِلَ فيها أبو الطيٌب المتنبي، ثم إلى سجن بعقوبة. أطلِقَ سراحي مصادفة، ليلةَ انقلاب عبد السلام عارف على العبثيين في 1963. كان حسين مردان الشاعر الصديق، صديقا لعلي صالح السعدي، نائب رئيس الوزراء، والشخصية البارزة في الحكم، وفي التراتبية الحزبية البعثية، وسأله علي صالح السعدي إن كان هناك شعراء لا يزالون سجناء. ذكر حسين مردان اسمي، فصدرت برقية فورية بإطلاق سراحي. وردت البرقية إلى سجن بعقوبة مساء.استفسرت مني إدارة السجن إن كنت أريد الانتظار حتى الصباح لآخذ ملابسي وبعض المال المودَع، قلت: أذهب الآن ! وهكذا خرجت من السجن بالبيجامة إلى بغداد حيث اتصلت بأقاربي ليتسلٌموني من مديرية أمن بغداد. لو تأخرت يوما لبقيت في السجن عشر سنين”. وذهب سعدي إلى طهران ودمشق ثم سافر إلى الجزائر وعمل هناك في التدريس لسبع سنوات في مدينة سيدي بلعباس. قبل أن يعود الى وطنه بعد انقلاب البعث الثاني في يوليو/ تموز 1968. يقول محمود درويش “لقد أدمن سعدي يوسف المنفى، فصار جزءاً عضويا من حياته ومن لغته، لا باعتباره مكاناً جغرافياً نقيضاً للوطن فحسب، بل باعتباره مجالاً حيوياً لتعرٌف الذات إلى نفسها في الآخر، وللتأمل في الأشياء الأولى من بعيد، وباعتباره قيمة أدبية تعبّر عن غربة وجودية”. ويقول سعدي يوسف “لقد قضيتُ حياتي الإبداعية كلها خارج العراق باستثناء نحو ثماني سنوات قضيتها داخل حدود الوطن، لهذا فأنا لا اسميه منفى، بل هو حياتي الحقيقية، وساكون كذباً لو استعملتُ كلمة منفى، فتجربتي الشعرية مستمدة كلها من الحياة خارج العراق، لكن تجربت الحقيقية رغم حياتي بالخارج، فلقد عشتُ الأزمات والإشكاليات العراقية كلها ولم أنفصل عنها”.

رجع سعدي إلى العراق في بداية السبعينيات وغادرها في العام 1979 عندما وصل صدام الحسين إلى الحكم. وجد سعدي نفسه متنقلا بين دمشق وبيروت، ثم قبرص واليمن الجنوبي وتونس بعد خروج منظمة التحرير من لبنان. عن

هذه المرحلة كتب الباحث فواز طرابلسي:

“عشنا معا في بيروت التي تقاوم الحصار الاسرائيلي بـ«قلبها الياقوت» ورافقته متنقلا في منافيه بين دمشق وقبرص وعدن وفرنسا الى ان استقرّ في انكلترا.

في آخر اتصال ارسل لي هذه القصيدة التي تقول الكثير عن سعدي الشاعر والانسان.أن تكونَ على التلّ …

أرتقي في الصباحِ الـمُـبَكِّر، تلّةَ هَيْرْفِيلْد

معتمِداً عَـصَـوَيَّ اللتينِ تُعِينانِ ساقَيَّ

( قد وهَنَ العظْمُ مني كما تعْلَمُ )

…العشبُ أخضرُ

والـمُرْتَقى ضيِّقٌ

(هو أصْلَحُ للماعزِ)

الشمسُ أوضَحُ في الـمرتقى آن أبْلغُ هضْبَتَهُ؛

من هنا سأرى كونَ هَيْرفِيلدَ أوضحَ:

تلكَ البيوتَ التي جئتُها منذُ ألفَينِ …

تلكَ البيوتَ المطابخَ

أو غُرَفَ النومِ،

حيثُ الخنازيرُ ترعى نهاراً

لكي تتسافدَ في الليلِ.

ألْمحُ طائرةً تُشْبِهُ الحوْمَ

(مدرسةُ الطيَرانِ القريبةُ سوف تؤهِّلُها للقنابلِ)

كان ضبابٌ شفيفٌ على القريةِ.

الشارعُ انطَمَسَ …

*

أنْ تكونَ على التل

أفضل من أن تُخَوِّضَ في الوحْلِ …

*

ما هذه الحكمةُ المتأخرةُ؟

*

الآنَ تهبطُ،

لكنْ لتنتظرَ الصبحَ

والـمُرتقى!

كان سعدي مثل الكثير من الشعراء العراقيين، منفيا من الطغيان ومن الواقع الاستبدادي، وامضى حياته في كتابه الشعر والترحال، أصدر ما يزيد عن 40 ديوانا شعريا، كان أولهم “القرصان” عام 1952، ومن أهم اعماله “قصائد مرئية” و”الأخضر يوسف ومشاغله” و”قصائد باريس-شجر ايثاكا”، وله ما يزيد عن عشرة أعمال نثرية تتنوع بين القصة والرواية والمقالة واليوميات. كما يعد سعدي من أهم المترجمين للعربية. صدرت له تراجم لعدة شعراء منهم والت ويتمان، غارسيا لوركا، يانيس ريتسوس وقسطنطين كفافي وروايات لنغوغي وايثينغو وولي شوينكا وكينزابورو اوي وجورج اورويل. وترجمته الشعر الأجنبي انعكست على كتاباته الشعرية، إذ تأثر بالكثير من القصائد العالمية، وملمحها حاضر في شعره، وسواء قصائد لوركا أو ريتسوس، كان سعدي القارئ النهم، روحه في روح الشعر العالمي. وهو كان له تأثيره على الكثير من الشعراء العرب.

Leave A Reply