خالد ابوشقرا – نداء الوطن
تثبت التجارب في الدول المأزومة، أن لا قعر للهوة التي يسقط بها الإقتصاد. التدحرج في سعر الصرف لا يقف عند مستوى معين، بل يتحول إلى “كرة ثلج”، تُجمّع الأزمات مع كل دورة وتكبرها أكثر. وإن لم تصطدم “الكرة” بـ”صخرة” الإصلاحات وتتفتت، فانها ستعظّم الإنكماش والبطالة والفقر، وتودي بكل الخدمات الصحية والتعلمية وأبسط متطلبات الحياة الأساسية.
بعد نحو سنة وثمانية أشهر على انفجار الأزمة النقدية، يظهر أن عناصر تفقير الشعب اللبناني اكتملت. “قشة” الإستهلاك من آخر المدخرات وأموال المغتربين التي ما زالت تغطي “عورة” الفقر، ستسقط مطلع أيلول القادم مع عصف رياح ارتفاع الأسعار، وسكون “ثلج” الإصلاحات. الأمثلة عن المدى الذي يمكن أن تصله الأزمات في حال ترك “حبل” المعالجة على “غارب” الحلول الترقيعية، لا تعد ولا تحصى. في الزيمبابوي طرحت في العام 2008 ورقة بنكنوت جديدة فئة 100 مليار دولار زيمبابوي. وفي فنزويلا بلغ سعر صرف الدولار الأميركي رقماً خيالياً يقارب 214 مليار بوليفار. وفي سوريا انخفض سعر الصرف رسمياً من حدود 50 ليرة في العام 2011 إلى 2500 وأكثر من 3000 ليرة في السوق الموازية. وفي إيران فان كل دولار أصبح يساوي 42 ألف ريال. أمّا في لبنان فان الليرة فقدت لغاية الآن 89.8 في المئة من قيمتها، وهذه النسبة مرشحة للإرتفاع إلى معدلات لا يصدقها العقل في حال وصل سعر الصرف إلى 999 ألف ليرة كما يتوقع الخبراء.
أيلول طرفه بـ”الغلاء” مبلول
بعد نحو ثلاثة أشهر من اليوم تبدأ عملية التحضير لموسم الشتاء مع ما ستحمله من أعباء. معظم المدارس الخاصة التي تضم بحسب إحصاءات الدولية للمعلومات “727 ألف تلميذ من أصل مليون تلميذ في مختلف المراحل التعليمية، وبنسبة تصل إلى 68 في المئة”، ستفرض بحسب مدراء أحد المدارس “زيادة على الأقساط تتراوح بين 10 و30 في المئة”. وهي ستعمد حكماً إلى “رفع أكلاف النقل بمقدار الضعف عن العام 2019، نظراً لارتفاع سعر المازوت من 17900 ليرة إلى أكثر من 31 ألف ليرة حالياً”. نسبة المستشفيات التي لن تقبل إلا الدفع نقداً بالدولار أو بحسب سعر السوق الموازي سترتفع من 16.3 في المئة اليوم إلى نسب أعلى بكثير قد تتجاوز 50 في المئة بعد أشهر قليلة، خصوصاً في ظل ارتفاع سعر الصرف واستيراد المعدات الطبية على سعر السوق. أعداد المصروفين من العمل تحت سن التقاعد ستتخطى بأضعاف الأعداد المسجلة رسمياً في العام 2020، والتي بلغت بحسب الإحصاءات 50 ألف شخص. متوسط تعويضات نهاية الخدمة من الضمان الإجتماعي الذي يبلغ 30 مليون ليرة، لم تعد تساوي أكثر من 2000 دولار أميركي بأسعار يومنا الحاضر، وهي مرشحة للإنخفاض أكثر مع كل ارتفاع في سعر الصرف. أبناء المناطق الجبلية سيواجهون صعوبة في تأمين أكلاف التدفئة. فالمازوت سيكون مقطوعاً في حال استمرار الدعم، وإن رشّد فسيتجاوز سعر البرميل الـ 300 ألف ليرة بأشواط، كما أن سعر الحطب ارتفع بمقدار الضعف أو حتى أكثر عن العام 2019.
الإنهيار أصبح يقاس بالأيام
“سرعة التدهور قد تطيح الإستقرار الإجتماعي في غضون أيام وأسابيع، وقد لا تتطلب بالضرورة ثلاثة أشهر”، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. فارتفاع سعر صرف الدولار من 13 ألف ليرة إلى حدود 15 ألفاً، أدى إلى موجة من ارتفاع الأسعار وفرض واقعاً جديداً. كيلو اللبنة على سبيل المثال زاد سعره بقيمة 10 آلاف ليرة مطلع هذا الأسبوع، ووصل إلى حدود 60 الف ليرة بعدما كان سعره لا يتجاوز 10 آلاف ليرة قبل الأزمة. وبالتالي لا يمكننا تحديد مهل ومواعيد لقياس سرعة وحجم التدهور. إلا أنه من الجهة الأخرى، فان قدرة الناس على التحمل مرتبطة، بحسب شمس الدين، بـ”موقف الأحزاب أكثر منها بالأسعار. وطالما الأحزاب راضية ولم يعمد أي منها لقلب الطاولة على الجميع، فان الناس ستبقى صامتة تتحمل من المعاناة بلحمها الحي. والدليل عدم مواكبة ارتفاع الأسعار وفقدان المحروقات مع الأدوية بتظاهرات أو احتجاجات أو اعتصامات”.
تراجع الموارد المالية
مقابل هذه الأرقام يظهر أن العوائد المالية التي اعتمد عليها قسم كبير من اللبنانيين في الفترة الماضية قد تراجعت بشكل ملحوظ. فصحيح أن التعميم 158 سيسدد لغاية 50 ألف دولار مناصفة بين الدولار والليرة اللبنانية على سعر 12 ألفاً، إلا أنه “سينشف”، بعد فترة تبدأ بالأشهر وتصل إلى 5 سنوات، حسابات حوالى 70 في المئة من المودعين. كما وأن قسماً كبيراً من المواطنين استنزف كامل مدخراته وتعويضات صرفه من الخدمة في الفترة الماضية نتيجة الإرتفاع الهائل بالأسعار. ولن تبقى إلا تحويلات المغتربين التي زادت بشكل كبير”، من وجهة نظر شمس الدين، “فبعيداً من إحصاءات شركات تحويل الأموال التي تسجل انخفاضاً في متوسط قيمة الحوالة قياساً إلى الفترات السابقة، فان ما يحمله المغتربون معهم باليد ويسلمونه لذويهم مباشرة، هو أكبر بكثير من التحويلات التي تجري عبر المصارف بسبب فقدان الثقة بالنظام. أما بخصوص التحويلات التي تتراوح بين 50 و100 دولار فهي “مستجدة”، برأي شمس الدين، و”لم تكن موجودة في السابق لأنها ببساطة لم تكن ذات قيمة. أما اليوم فقد أصبحت تشكل سنداً أساسياً لذوي المغتربين متوسطي الحال في الخارج. وبحسب شمس الدين “لا أحد يستطيع تحديد حجم تحويلات المغتربين الفعلية بشكل دقيق لانها لم تعد تتم بالطرق التقليدية السابقة، لكنها على الاكيد زادت عشرات المرات.. وسترتفع أكثر في المقبل من الأيام بعد الإنتهاء من الإقفال في الدول الأجنبية وعودة الأعمال إلى واقعها الطبيعي”.
وفي ما خص البطاقة التمويلية، التي من المفترض أن تشكل سنداً لثلاثة أرباع العائلات اللبنانية (750 ألف عائلة)، وتمدهم شهرياً بنحو 137 دولاراً، فيظهر من أجواء اللجنة المنبثقة عن اللجان المشتركة الموكلة درسها أنها لن تبصر النور قريباً. وهي تثير المخاوف عند قطاعات الأعمال من تأثيرها السلبي على الإقتصاد، بالمقارنة مع دورها المحدود في محاربة الفقر والعوز. فبالإضافة إلى عقدة تمويلها وإمكانية تحولها إلى “سلسلة رتب ورواتب” جديدة تزرع التضخم وارتفاع الأسعار، فان أحد الصناعيين يخشى من أن تؤدي إلى ترك الكثير من العمال المصانع. خصوصاً أولئك الذين لا يتقاضون مبالغ كبيرة ويسكنون في مناطق بعيدة. فحصول العائلة على مبلغ 2 مليون ليرة، مرشحة للإرتفاع مع كل زيادة بسعر الصرف، من دون جهد أو تعب سيؤدي إلى إحجام عدد غير قليل من العاطلين عن العمل عن التقدم للعمل في المعامل والمصانع مقابل 1.5 مليون ليرة. كما قد يدفع بالكثير من العمال الذين يتقاضون بين المليون و1.5 مليون إلى التوقف عن العمل. وبالتالي هناك خطر جدي أن تفقد المصانع والمعامل عدداً غير قليل من مشغليها في ظل العجز عن تأمين اليد العاملة الأجنبية”.
إنهيار القدرة الشرائية للمواطنين يترافق مع فقدان الإقتصاد بشكل عام مقومات نموه ورفاهه. الأمر الذي سينعكس تراجعاً في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية ومزيداً من صرف العمال والموظفين في القادم من الأيام.