خالد ابوشقرا – نداء الوطن
إذا كان لبنان سويسرا الشرق، فان سويسرا “مرتع” اللبنانيين في الغرب و”جنة” رساميلهم المحوّلة بعد 17 تشرين الأول 2019 بحق أو من دون وجه حق. المبالغ التي تدور حولها الشبهات غير محددة بالضبط، ولكنها بالمليارات بأقل تقدير. “ذنبها” الأول أنها خرّجت أيام “القحط” النقدي، وفي الوقت الذي كان يستجدي فيه المودعون “فتات” الدولار من حساباتهم. ليتم من بعدها الإنتقال إلى البحث في مشروعيتها وإيجاد السبل لاستعادتها… وانتظروا يا لبنانيين.
إرتفاع نسبة الأموال المودعة في سويسرا نيابة عن العملاء اللبنانيين في العام 2020 بنحو الثلثين، وبقيمة وصلت إلى 2.7 مليار دولار، ما هو برأي الخبير الإقتصادي حسن مقلد إلا رأس جبل الجليد الذي “كشفنا عنه قبل أشهر من اليوم بناء على دراسات إستقصائية وحالات تتبع مع المصارف الخارجية”. وما يخفى تحت “سطح الماء” أكبر وأعقد بكثير. فـ”هناك الكثير من التحويلات من لبنانيين إلى لبنانيين، وفتح اعتمادات في غير بلدان تمر عبر سويسرا. ومن يأخذ التقرير الأساسي، ويتابع التقارير الدولية التي تصدر عن المراجع المعنية كل ستة أشهر يكتشف الحجم الحقيقي وشبكة التحويلات التي تربطها بسويسرا وغيرها من البلدان”.
بالعودة إلى التقرير الأخير الذي اعتمد على أرقام “البنك الوطني السويسري”، والذي حفّز القضاء اللبناني على المتابعة، فانه لا يظهر بالتفصيل إن كانت هذه المبالغ المحولة تعود إلى “حسابات ودائع” أم “حسابات إئتمانية” fiduciary account. مع العلم أن الملاحقة تجوز في الحالتين. ولكن بالنظر إلى انخفاض الحسابات الإئتمانية في لبنان بين العامين 2019 و2020 من 5.3 مليارات دولار إلى 2.4 مليار دولار، وزيادات حسابات الودائع في سويسرا من 3.9 مليارات إلى 6.4 مليارات، يمكن الإستنتاج أن المبالغ التي يحكى عنها تعود إلى حسابات إئتمانية. فما هي هذه الحسابات؟ وهل إخراجها مبرر؟ وهل يمكن ملاحقتها واستعادتها؟
الحسابات الإئتمانية
يجيب رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين المحامي كريم ضاهر أن “الحساب الإئتماني هو حساب إيداع ينشئه المصرف الخاص الأجنبي لصالح عميله في احد المصارف المحلية أو الأجنبية. مميزاته أنه لا يكشف اسم العميل. ويعتبر أقل خطراً من توظيف الوديعة في الأسهم والسندات، سواء كانت تعود لصناديق مشتركة أم لسندات حكومية، ولو ان عوائد الحساب قد تكون أقل. وهو عادة ما يفتح على فترة 3 أو 6 أشهر، ولا تتخطى المدة السنة بشكل عام. ما حدث أن المصارف السويسرية كانت تفتح مثل هذا النوع من الحسابات في المصارف اللبنانية قبل العام 2020 لسببين: الأول، إنعدام ثقة المودعين، وهم في معظمهم لبنانيون، بالقطاع المصرفي اللبناني، وخشيتهم من ضياع أموالهم في حال حدوث أي خضة إقتصادية أو أمنية أو خلافه. وبهذه الطريقة يحمون أموالهم، لان الدائن هو مصرف أجنبي يملك حصانة ويستطيع ملاحقة المخالفين في المحافل الدولية. وبالتالي، تمكّنهم هذه الطريقة من الحصول على نفس الفائدة بعد حسم المصرف الأجنبي عمولته وبمخاطر أقل. الثاني، رغبة بعض النافذين من سياسيين وموظفين في الشأن العام “التعمية” على أسمائهم عند توظيف أموالهم في المصارف المحلية طمعاً بالفائدة المرتفعة.
هل يمكن استعادة هذه الاموال المحوّلة كما يأمل ويعوّل اللبنانيون؟
“يمكن استرداد الأموال المحولة غير المشروعة، ولا يمكن استرداد الأموال التي لا تعتريها شبهات فساد أو اختلاس أو تبييض اموال أو سرقة أو خلافه”، يقول ضاهر. “لذا من المهم التمييز بين الودائع الموجودة في الخارج إنطلاقاً من الحالات التالية:
الحالة الأولى، أموال تعود لأشخاص عاديين حولوا أموالهم إلى الخارج ما قبل أو حتى ما بعد 17 تشرين عن حسن نية ومن دون استعمال النفوذ. في هذه الحالة لا يوجد أي قانون يمنعهم من تحويل الأموال، ولا يمكن إصدار قانون بمفعول رجعي لانه مخالف للدستور وتحديداً الفقرة (و)، والمادة 15 التي تحمي الملكية الفردية.
الحالة الثانية، أموال محولة تعود لأشخاص معرضين سياسياً PEP استعملوا نفوذهم، وكانت الأموال ناتجة عن عمليات غير مشروعة تندرج ضمن المادة 351 من قانون العقوبات التي تتعلق بالإختلاس والرشوة وصرف النفوذ واستعمال المركز. في هذه الحالة يمكن استرداد هذه الأموال. كما أن القانون الجديد رقم 189 يسمح بمساءلة المسؤولين والفاسدين عن مصدر أموالهم المحولة، ويكفي أن يعجزوا عن التبرير لتنطبق عليهم أحكام القانون ويلقى الحجز على أموالهم. أمّا في حال كانت الأموال تعود إلى مصرفيين ومساهمين بأكثر من 5 في المئة، ولمفوضي المراقبة، فينطبق عليهم القانون 2/67 المتعلق بالإفلاس، والقانون 110/91 المتعلق بوضع اليد، والقانون 160/2011 المتعلق باستعمال المعلومات المميزة. وفي حال إثبات أنهم أساؤوا إلى المصارف وارتكبوا أخطاء إدارية أدت إلى الخسارة يمكن الحجز على اموالهم. وتعود الأموال للقطاع المصرفي. ويمكن التعويض بها على المودعين.
الحالة الثالثة والأهم، أموال محولة لأشخاص عاديين وهم مرتكبون لواحدة من المخالفات التالية: تهرّب ضريبي، إحتكار، استفادة غير مشروعة من الدعم… وهي تعتبر جرائم منصوص عنها في القانون 44/2015 المتعلق بتبييض الأموال. وفي هذه الحالة يمكن استرداد الاموال للخزينة اللبنانية لانها ناتجة عن تبييض الأموال.
الحالة الرابعة، أموال محوّلة ظاهرها شرعي، ولكنها في الحقيقة تعود لأشخاص مستترين استعملوا أقاربهم لإخراجها. كأن يعمد على سبيل المثال أحد السياسيين الفاسدين إلى تسجيل الوديعة المحولة باسم قريبه الذي يملك مصدر دخل محدود جداً أو متواضع. وفي هذه الحالة يلاحق الإثنان.
آلية الإسترجاع الحقيقية
بعيداً عن الشعبوية وطلبات كشف الأسماء ومبالغ الحوالات… فانه لا يمكن بحسب ضاهر “استرداد دولار واحد إن لم تأخذ الدولة اللبنانية صفة الإدعاء الشخصي أمام الجهات السويسرية المختصة. وهذه العملية يجب أن تتم بسرعة قبل أن تحجز الخزينة السويسرية على الأموال المشكوك فيها والمدعى بعدم “نظافتها” بدعوات فساد واختلاس وسرقة وغيره. وعليه فان الخطوة الأولى تكون بقيام الدولة بالتحقق والتدقيق بكل التحاويل من بعد 17/10/2019 والرجوع بالأسماء المشتبه فيها إلى فترات سابقة، ومحاسبة المرتكبين.