واسيني الأعرج – القدس العربي
لعبت الجامعة الأمريكية دوراً حاسماً في الثقافة العربية في بيروت والقاهرة، وكانت وراء أسماء كبيرة رسخت المعرفة الحديثة بانفتاحها على آفاق أوسع. وقد كان حظ مي زيادة من الجامعة الأمريكية كبيراً، بل كانت من وراء إنقاذها أيضاً أيام محنتها في مستشفى الأمراض العقلية «العصفورية». فقد استضافتها في وقت مبكر العديد من المرات، لإلقاء بعض المحاضرات عن الحداثة والتطور العلمي. أرشيف الجامعة الأمريكية في بيروت AUB يملك الكثير من هذه الوثائق المفيدة. فقد ألقت مي زيادة أولى محاضراتها في الجامعة الأمريكية في منتدى الويست هول، ظهر يوم الثلاثاء 31 أكتوبر / تشرين الأول 1922 وكان عنوانها «هو ذا الرجل». وتحدثت فيها عن كريستوف كولمبس، الرجل الشجاع والقوي الذي لا ثراء يقوده إلا ثراء العلم. ليس هنا طبعاً مجال نقاش هذه الشخصية التي غيرت العالم، ولكن بعنف دفع ثمنه السكان الأصليون من الهنود الحمر الذين تعرضوا لحملات إبادة غير مسبوقة بشرياً، بمحو كلي للثقافات الأصلية. ركزت ميّ في محاضرتها على اكتشافاته. فقد حقّق «ما لم تتخيله كبار العقول على مرور أربعين قرناً» والمحاضرة تمجيد أيضاً بالجامعة الأمريكية التي لعبت دوراً كبيراً في تحرير المرأة بتعليمها، وفي تكوين أجيال من العلماء.
وربما أهم محاضراتها في الجامعة الأمريكية، تلك التي ألقتها في «وست هول» مساء الثلاثاء في 22 مارس/ آذار 1938 تحت عنوان «رسالة الأديب إلى الحياة العربية» كانت وسيلتها لإثبات عقلها أمام من اتهموها بالجنون، إذ ألقيت في حضرة القضاة والمحامين الذين كلفوا بمتابعة قضيتها بعد أن طلب رئيس الجمهورية إميل إده، فتح ملفها من جديد. ولولا وقوف قلة من الأصدقاء بجانبها، ومنهم الجامعة الأمريكية التي استقبلتها في مستشفاها للنقاهة بعد المحنة العصيبة، والصديق الفذ أمين الريحاني، لانتهت في منفى الجنون المظلم الذي فرضه عليها ابن عمها جوزيف زيادة. استطاعت جهود أمين الريحاني وعائلته أن تنقذها من موت محتوم في العصفورية، بمساعدة عائلة الجزائري من أحفاد الأمير عبد القادر، ومنهم الأمير أحمد، ومختار، وقيدوم العائلة الأمير السعيد الذي كان قد تعرف عليها وعائلته في بيروت، هو من أوصل قضيتها إلى الأمير عبد الله بن الحسين، ملك الأردن، الذي أوصلها بدوره إلى الرئيس اللبناني إميل إده، وعائلة الأيوبي، وهم أصهار الأمير (بدرية أيوبي). وانتهت المحاضرة بتسريع خروجها من سجن المستشفى. لم تذكر ولا كلمة عن معاناتها في «العصفورية» ولكنها تحدثت عن موضوعة دور الأديب في المجتمع العربي «رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. كل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث، وأعظم فوائد الإنسانية نحمت عن عصور العذاب والخطر. الخطر مرهف، ولا يعرف شأن ذي الشأن إلا يوم الكريهة. والعاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس. أما الأشجار ذات الحيوية العصية، فالأعاصير تلح عليها وتهزها هزاً عنيفاً فلا تزيدها إلا قوة ومناعة». إلى أن تصل إلى الخاتمة التي فيها شيء من عذابها المبطن: «أي شيء لا تعلمنا رسالة الأديب؟ إنها قوة تستفز قوتنا، وموهبة تحفز مواهبنا، وصرامة تردنا عن الحقارة، وبسالة تدفعنا إلى البسالة، وعذوبة تؤاسي أحزاننا، وأغرودة تطرب أشجاننا، وهي عالم مستقل ومتماسك يسوقنا إلى تكوين عالمنا المتآلف والمستقل». وقبل أن تغادر بيروت نهائياً، وبدعوة من جمعية «العروة الوثقى» في الجامعة الأمريكية، ألقت محاضرة أخيرة في الجامعة الأمريكية بعنوان: «القوة والضعف في روحياتنا» في نهايات ديسمبر / كانون الأول 1938. ذكرت فيها دور الجانب الروحي في حياة الإنسان والأمم من أجل التوازن: «الوطن قوة روحية، ولو لم يكن كذلك ما كونت البقاع الرحبة وطناً، ولا اتفقت قلوب الملايين على حب واحد، وغرض واحد. الدولة قوة روحية لأن مجموع وظائفها المتعددة تتلخص في صيانة الحرية والكرامة، وتمكين أهل البلاد من التدرج شيئاً فشيئاً في معارج الارتقاء». كانت هذه آخر محاضراتها التي استقبلتها الجامعة الأمريكية، في بيروت التي ودعتها في يناير 1939، من خلال خطاب مؤثر ألقته من محطة راديو الشرق: «هذه الأعوام الثلاثة (ثلاثة أعوام إلا خمسين يوماً بالضبط) لهي أطول مدة متجمعة قضيتها في حياتي في لبنان، مشاهدة الكثير من الحوادث، منفعلة بالكثير من الوقائع، معالجة الكثير من الاختبارات، ذائقة على مضض الكثير من الطعوم». وعادت إلى القاهرة محملة بجرح صمت أعز أصدقائها من الكتاب المصريين، العقاد، طه حسن، أحمد شوقي، سلامة موسى، أحمد لطفي السيد، إسماعيل صبري، الشيخ مصطفى عبد الرازق، منصور فهمي، محمد حسين هيكل باشا، وغيرهم. اعتزلت الناس، بالخصوص أصدقاؤها القدامى. الكثير منهم روج لفكرة جنونها، ومنهم العقاد الذي تحدث عنها بشكل يؤكد جنونها، وسلامة موسى الذي قدم عنها صورة كاذبة ومفجعة، وهي تجوب شوارع القاهرة بلباس رث ومتسخ. وظلت في عزلتها إلى أن استضافتها الجامعة الأمريكية بالكثير من الحب والاحترام، في القاهرة، وقدمت محاضرتها فيها يوم الاثنين 20 يناير / كانون الثاني 1941 في الساعة الخامسة والنصف، بالقاعة الشرقية، بعنوان «عش في خطر» التي قالت فيها: «الدنيا كلها خطر، وتاريخها حافل بالأخطار، لذا يجب على المرء ألا يخشى الخطر في هذه الحياة».
وحضر هذه المحاضرة جمع غفير دفعه الفضول الثقافي والتقرب من مأساتها التي كانت الصحافة قد حولتها إلى موضوع الساعة. كانت تضرب الأمثال من صميم الحياة على مقاومة الخطر وتدرجه، قائلة: «إننا لا نتصور مقدار ما عاناه الإنسان الأول من البسالة في الإقدام على ركوب الحمار لأول مرة، لكنه الآن يركب القطار والسيارة والباخرة فالطائرة دون أن يفكر في أي خطر». مرة أخرى لم تتحدث، على عكس المنتظر منها، عن ذاتها، إذ اتكأت في خطابها على التورية التي كان التأويل يقودها مباشرة نحو مأساتها. فقد قاومت بصبر كبير سلطان الخوف. لم تكن تعرف أنها تملك طاقة المقاومة قبل مأساتها التي كان وراءها ابن عمها جوزيف زيادة الذي استغل فقدانها المتواتر لكل سندها الثقافي والعائلي، فقد رحل والدها في أكتوبر/ تشرين الأول 1929 بعد صراع مستميت مع المرض. وتبعه جبران خليل جبران، الصديق الحميم، في العاشر من أبريل / نيسان 1931 ثم والدتها في مارس 1932. دخلت مي بعدها في حالة اكتئاب بعثت خلالها برسالة لابن عمها جوزيف لينقذها، فأجهز عليها بإدخالها «العصفورية». فقد تنكر الجميع لمي، الأهل والأصدقاء، ولم تجد سندها إلا في حفنة من الأوفياء، وفي الجامعة الأمريكية التي فتحت أبوابها لها لتعبر عن مأساتها بشكل معلن، وتقنع القضاء بعقلها لفك الحجر عن مالها الذي لم يكن كبيراً في مصر بعد أن استولى عليه جوزيف وتصرف فيه كما شاء، ومنعت من الدخول إلى منزلها في القاهرة واسترجاع أمتعتها المنزلية الشخصية وما تبقى من مالها. ساعدها مصطفى مرعي بك، في رفع الحجر. وكان هو من عرض على مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية الذي كان يريد استضافة مي، فكرة أن تقوم ميّ بإلقاء محاضرة ضمن برنامج المحاضرات العامة، وتتم دعوة القاضي الذي ينظر «رفع الحجر» فلبى الدعوة. وعند مغادرته الجامعة الأمريكية، قال القاضي جملته الشهيرة بحزن وسخرية: «أهذه مجنونة؟ إنها أعقل مني».