الأحد, نوفمبر 24
Banner

أنطون غطاس كرم أديباً وناقداً وأكاديمياً من عيار الذهب

سليمان بختي – النهار

أنطون غطاس كرم أديباً وناقداً وأكاديمياً من عيار الذهب

أنطون غطاس كرم (1919-1979) أديب وناقد وأكاديمي شكل حالة مميزة في المجالات الثلاثة وطبعها بجذوة روحه المتّقدة وإبداعه الأصيل. ولد في جزين في 12 نيسان 1919 وتلقى تعليمه في دير مشموشة ثم أكمل دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت ونال شهادة الماجستير سنة 1947 ومنها إلى جامعة السوربون في فرنسا حيث حاز شهادة دكتوراه دولة في الأدب بدرجة مشرفة جداً سنة 1959 وموضوع أطروحته “جبران خليل جبران”. درّس الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت وفي الجامعة اللبنانية وكلية بيروت الجامعية (اللبنانية الأميركية) ردحاً. كما شغل منصب عميد كلية الآداب في الجامعة اللبنانية وكان عميدها الأول (1960-1963) ولكن لم يطل المكوث فيها فقد بدأ كالطائر الغريب. عاد إلى الجامعة الأميركية رئيساً لدائرة اللغة العربية وآدابها (1971-1974) وكان أستاذاً زائراً في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية (1967-1968)، واستاذاً زائراً في جامعة بيركلي في كاليفورنيا (1974-1975). كنت أراه في شوارع رأس بيروت يغذّ السير بهدوء من الجامعة الأميركية إلى اللبنانية – الاميركية، وبين الجامعتين منزله. ودائماً في تمام أناقته، يعتمر البرنيطة الانكليزية ويضع قفازيه ويحمل مظلته والحقيبة. وإذا تبين ملامحك ابتسم بثناء وطيبة. لعلها الأناقة عينها في أسلوبه وعباراته وأدبه وسلوكه وتهذيبه. كان أنطون غطاس كرم يتريّث ويتروّى حتى يسلس له المعنى قيادة إلى سحر البيان. وكان الالتزام الجمالي لديه نابعا من داخل غنيّ بالجمال. يروي الدكتور ميشال جحا انه كان يحلو له أن يردد هذه الأبيات لإيليا أبو ماضي:

“كلما استولدت نفسي أملا/ مدّت الدنيا له كفّ اغتصاب

أفلتت مني حلاوات الرؤى/ عندما أفلت من كفي شباب

يبتّ لا الإلهام باب مشرع/ لي، ولا الأحلام تمشي في ركابي

جعت والخبز وفير في وطني/ والسنا حولي وروحي في ضباب”

. كان أنطون غطاس كرم أكاديمياً ضليعاً وأديباً مثقفاً وناقداً متعمقاً. استوعب آداب عصره بالعربية والانكليزية والفرنسية. أما حياته وديباجته فإشراق ولمع ورؤى. كتبه “أبعاد” (1944) و”الرمزية والأدب العربي الحديث” (1949)، وهذا في الأساس موضوع رسالته في الماجستير. “إعلام الفلسفة العربية” مع كمال اليازجي (1957)، “محاضرات في جبران خليل جبران، سيرته وتكوينه الثقافي – مؤلفاته العربية” (القاهرة 1964)، “صراع القدماء والمحدثين في القرن الثالث للهجرة” (1958)، “التراث العربي في العلم والفلسفة” (1974). لكن كتابه “عبدالله” (1969-1979) هو الذي ترك صدى واسعاً إذ كان مرآة لذاته حيث امتزج الأدب وصفاء الفكر بالتصوف بالذاكرة وجمالية الشكل وعمق المضمون. هو فعل الكشف المتوهج بين العلاقات والرؤى وهو البيان المنقى والشفاف. كتب عنه نديم نعيمه في كتابه “الفن والحياة”: “كم هو عظيم وناقد. بين كل الأصوات صوت عبدالله إذ يقرأ علينا من سفر فجيعة العالم وعبثية وجوده”. واعتبر كتابه هذا، امتداداً للأرقش والنبي وخالد ومرداد. الأدب والفكر والنقد أدواته. وهو إذا كان مقلاً في التأليف الإبداعي، فقد كان غزيراً في الكتابة عن الأدب العربي الحديث. والنقد عنده يقارع الشعر ويحاكي الإبداع. اعتبر أنطون غطاس كرم الرموز وسيلة للتعبير عن زوايا غامضة، وأبرز الرمزيين العرب الذين توقف عندهم: بشر فارس، توفيق الحكيم، يوسف عطوي، سعيد عقل وصلاح لبكي. واعتبر تأثير جبران على الأدب العربي أشبه بتأثير غوته على الأدب الرومنطيقي في أوروبا. كان يسعى لنحت الحروف والمعاني فكلمة nuance مثلاً استنبط لها كلمة ظلال المعاني أو موشور المعنى. ويضيف تلميذه الراحل رمزي نجار: “أما ما كان ينحته فينا طلاباً، قراء أو مستمعين، فهو صقل للشخصية واحترام عميق للإبداع، وحافز ملحّ للمحاولة، للمقارنة ولتوليد الفكرة أو لصياغة العبارة”. وكتب عنه تلميذه الشاعر قيصر عفيف “كان سيداً أنيق الكلمة، أنيق الملبس، حلو المجلس، غني الثقافة، ما درس عليه أحد إلا وازداد علماً وثقافة”. كتب في رسالة لابنه في 12 آذار 1979 يقول: “العالم العربي مقبل على أحداث جسيمة ربما قلبت أوضاعاً وبدّلت حدوداً وقوضت نظماً”. أسهم اسهاماً مميزاً في نقد الأدب فكتب في “كتاب العيد” (1967) دراسة بعنوان “مدخل إلى دراسة الشعر العربي الحديث” شدد فيها على دور الثقافة وعلى أن التبويب التاريخي للشعر الحديث قد لا يسعف على فهم التطور العام الذي أصاب الشعر في قرن ونصف القرن. ومع قدرته المتمكنة من النقد فلم يقدر النقد على الإبداع أبداً. وكان يسجل اعجابه بجبران الذي اعتبره يخلق اللغة بمقدار ما يستطيع خلق الحياة. وكذلك تقديره الكبير لميخائيل نعيمة الذي قال فيه في المهرجان الدولي لتكريمه في 1978 “علمتنا شرف القلم، وبهاء الكتابة، أنها فعل حرية، وموقف. وعلمتنا أن المحبة وحدها هي الطريق إلى قلب الحياة”.اهتم لفترة بالترجمة ونقل إلى العربية “بايرون” لأندره موروا (1948) و”النبي” لجبران من الانكليزية إلى الفرنسية (1955)، “في السلطة” لبرتران دو جوفينال (1956)، كتاب اليكسيس دي توكفيل “الديمقراطية في أميركا” (1960)، وكتاب “فلسطين” لميشال شيحا (1960). حاز في العام 1974 جائزة الدولة اللبنانية لمؤلفاته الأدبية والنقدية. توفي في بيروت في 12 حزيران 1979 إثر ازمة قلبية لم تمهله. وحاز وسام الأرز من رتبة ضابط. أمضى حياته في التعليم والتأليف والترجمة وفي دفء الصداقات. وهو أحد الذين رفعوا سقف النقد الأدبي الحديث في لبنان والعالم العربي، مرسياً ثوابت إبداعية نقدية للأدب المقارن. اعتبرت الاونيسكو كتابه “عبدالله” من التراث العالمي. وصدرت أعماله الكاملة عن دار النهار للنشر 1979، وسمِّي شارع بإسمه في الاشرفية. نرفع له التحية أديباً وناقداً وأكاديمياً لبنانياً من عيار الذهب الخالص.

Leave A Reply