كتب حسن الدّر
من نكد الدّهر أن “يعتصر قلب” وزير حرب العدوّ “بيني غانتس” على صور الجياع في لبنان، ويعرض علينا “المساعدة” الانسانيّة عبر قوّات اليونيفيل، ومن العار أن لا يهزّ كلام وزير العدوّ ضمائر المسؤولين عن تعطيل تشكيل الحكومة لاغراض انتخابيّة رخيصة!
“كان ناقص الدّست كرعانة” هذا أوّل تعليق سمعته من عجوز جنوبيّ، عندما أخبرته بالعرض الاسرائيليّ، ثمّ أردف تعليقه “ببصقة” أخرج فيها كثيرًا من الحسرة والحرقة، وتذكّر موقفًا للإمام المغيّب موسى الصّدر في سبعينيات القرن الماضي، ونصحني بمراجعته: “لتعلم أيّ قائد خسرنا”.
بحثت في أرشيف الامام فوجدت نصّ النّداء الّذي وجّهه إلى اللّبنانيين والعرب بعد انتهاء قمّة الرّياض وقبيل انعقاد مؤتمر القاهرة بأيّام.
انتهيت من قراءة النّداء، ولم أندهش من كلام الامام المطابق لواقعنا، فقد اعتدنا منه السّفر عبر الزّمن، بل تملّكني هاجس مخيف: لقد أكثر من ٥٠ سنة إلى الوراء، فهل ضاعت تضحيات الامام الصّدر ودماء الشّهداء! هل عدنا إلى نقطة الصّفر؟!”
قال الامام الصّدر بتاريخ ٢٢-١٠-١٩٧٦:
“أيها الأعزاء، إن إسرائيل تطلّ اليوم على الجنوب تحمل الدّواء والخدمات… مدّعية أمام العالم أنّها تقوم بدور إنسانيّ محض للّبنانيين! إنّ هذه الأدوية الّتي تقدّمها إسرائيل اليوم لا تعالج قطرة من بحار الآلام والمصائب الّتي خلقتها للبنان ولأبناء الجنوب بالذّات خلال ربع قرن.
وإنّ الخدمات الّتي تدّعي توفيرها لا تعادل ذرّة من عالم من الجمود الاقتصاديّ والزّراعيّ والفقر والتّشريد الّذي قدّمته في هذه المدة..
إنّ هذا التّبدّل المفاجئ في الموقف هو الجزء الآخر من المؤامرة الكبرى الّتي صمّمتها وهيّأتها ونفّذتها “إسرائيل” ضدّ شعبنا ووطننا وأمّتنا، والواجب المنطقي والمسؤوليّة الوطنيّة والإنسانيّة يدعوانا إلى الحذر والانتباه والتّصدي له بكامل قدراتنا.”
نعم يا سادة، هذا كلام عمره ٤٥ سنة، هذا كلام كان قبل الاحتلال وقبل المقاومة وقبل التّحرير وقبل الانتصارات المتراكمة، وبعد كلّ ما عانينا وضحّينا وصبرنا وانتصرنا تعيد “إسرائيل” عرضها المستفزّ والمهين لكرامة اللّبنانيين!
عاد الزّمن إلى الوراء، ولكن، أين موسى الصّدر ليرفع الصّوت ويوجّه النّداء ويهزّ الضّمائر؟!
وأين الدّولة الّتي طالبها بالتّحرّك والقيام بواجباتها؟ وهل نشعر أساسًا بوجود دولة؟ أم أنّنا نعيش على بقعة جغرافيّة سائبة، تنهشها مصالح وأهواء القوى الكبرى؟!
لا عجب من إهانة “بيني غانيتس” لنا، ولا عتب إلّا علينا.
نعم العتب علينا نحن!
نحن الّذين قبلنا، بمحض إرادتنا، بأن نكون دمى تحرّكها أصابع دول تحترم شعوبها، وتستخفّ بنا فتستعملنا أدوات في صراعاتها!
من المسؤول عن الذّلّ والجوع والفقر والانهيار؟
لا أحد مسؤول!
الكلّ بريء والكلّ نزيه والكلّ سياديّ والكلّ وطنيّ، والكلّ قاتلَ وناضل وضحّى، وقدّم الشّهداء لأجل الوطن!
لكن أيّ وطن؟ لا نعرف!
من المسؤول عن الخراب الّذي غزا نفوسنا وحطّم أحلامنا ودمّر شغف الحياة فينا؟
لا نعرف!
الشّيء الوحيد الّذي نعرفه هو أنّنا نعيش في مطحنة تهرس أحلام الشّباب، وتدفع من استطاع إلى الهجرة سبيلا إلى ترك كلّ ما تعلّق به في وطن الأوهام، ليبحث عن موطىء حلم في أيّ بلد يستقبله!
يبشّروننا بأنّ الأزمة طويلة، والحلّ بعيد، وأنّ ما يحصل حولنا أكبر منّا..
شكرًا لصراحتكم!
ولكن، هلّا أخبرتمونا عن التّداعيات الاجتماعيّة القاتلة لطول الأزمة، وعن المشاكل المتنقّلة من محطّة إلى محطّة، والّتي قد تشعل البلد كلّه على حين غفلة؟!
هل تطّلعون على التّقارير الأمنيّة والدّراسات الاجتماعيّة، المحلّيّة والدّوليّة، حول مستوى القعر الّذي وصلنا إليه؟
وهل تشعرون بمعاناة المواطنين الّتي انتقلت من طوابير الذّلّ إلى البيوت المعتمة والملتهبة بفعل انقطاع الكهرباء؟
هل سمعتم بالجثّة المتعفّنة في براد الموتى في إحدى مستشفيات صيدا؟
قال الامام الحسين عليه السّلام: “فإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَ الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَما”، أمّا نحن فقد لحقنا الظّلم إلى موتنا!
بعض السّاسة اللّبنانيّون مصابون بداء “السّاديزم”، نراهم يتلذّذون بمعاناة النّاس وهم يمارسون نشوة التّعطيل، أملًا في الحصول على وعود رئاسيّة من هنا أو حصّة وزاريّة زائدة من هناك!
والامام موسى الصّدر وضع إصبعه على جرح الوطن النّازف في خطبة له ألقاها في نادي الامام الصّادق في صور، يوم ٢٧ تشرين الأوّل عام ١٩٧٥ وممّا قاله يومها:
“ماذا تعرفون يا تجّار السّياسة، أيّها المتعطّشون إلى الدّماء، يا مصّاصي أموال النّاس وحرماتهم؟ ماذا تعرفون عن وطن الانسان والحضارة والتّاريخ؟
ماذا تعرفون أيّها المجرمون، يا من ابتلي بكم لبنان في هذه الفترة العصيبة!
إنّ الوطن متمسّك بكم أيّها الشعب، على رغم حرمانكم، وعلى رغم تجاهل المسؤولين لكم، وعلى رغم احتكار المصالح والمنافع للمحظوظين الاقطاعيين وازلامهم في بيروت وزحلة وطرابلس، إنّ لبنان للمسيحيين والمسلمين.
وأنتم أيّها السّياسيّون، أنتم آفّة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكلّ مصيبة، إنّكم الأزمة.