الإثنين, نوفمبر 25
Banner

الحصار الاقتصادي يكتمل: المرفأ إلى “التقاعد‎”‎

مرفأ بيروت ينهار. لم يعُد الأمر مجرّد توقعات بعدما باتت كلّ الرافعات الجسرية العاملة في محطة الحاويات على ‏وشك التوقّف عن العمل كُلّياً لتعذّر صيانتها. إدارة المرفأ تعزو سبب هذا الانهيار إلى حجز المحكمة على إيراداتها ‏بالدولار النقدي نتيجة دعوى قضائية، في حين يشكّك المحامون بحجة الإدارة ويحتفظون بحقّ تقاضي التعويضات ‏لعائلات شهداء الانفجار. وإلى أن يتم حسم هذا الملف القضائي، يؤثر بطء محطة الحاويات وشللها على عمل البواخر ‏الكبيرة ويهدّد بتصنيف شركات الملاحة لمرفأ بيروت من ضمن المرافئ غير الصالحة لاستقبال السفن الضخمة، ‏ويكمل الحصار على البلد. أسطورة “لبنان همزة الوصل” بين الشرق والغرب على وشك أن تصبح ذكرى من ‏الماضي

قبل نحو شهر، كانت 6 رافعات من أصل 16 رافعة جسرية لا تزال تعمل في محطة الحاويات في مرفأ بيروت. ‏يومها حذّرت غرفة الملاحة الدولية من أن‎ ‎المحطّة شبه المشلولة قد تتوقّف عن العمل‎. ‎صعوبة إصلاح الرافعات ‏وصيانتها وتأمين قطع غيار لها بسبب عدم توفر الدولارات النقدية، أدّى إلى تعطّل رافعة إضافية، ليقتصر عدد ‏الرافعات العاملة اليوم على 5 فقط (واحدة منها تعمل بـ 20% فقط من قدرتها التشغيلية). لم يحدث ذلك فجأة، بل ‏سلك مساراً انحدارياً منذ انفجار المرفأ. تدرّج الوضع من 12 رافعة بحالة جيدة إلى خمس لا تعمل بكل طاقتها ‏ومهدّدة بالتوقف في أي لحظة، ما سيعطّل محطة الحاويات تماماً ويتسبّب بشلّ حركة المرفأ كُلّياً‎.

ماذا يعني ذلك؟ بحسب المدير العام للجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، عمر عيتاني، “ما يحصل يضع ‏الأمن الغذائي والاجتماعي في خطر، بمعنى أن استيراد المواد الغذائية والحليب والأدوية والمعدات الطبية وغيرها ‏من المواد الأساسية سيتوقف مع توقف المرفأ عن العمل”، لافتاً إلى أن “70% من حركة الاستيراد و90% من ‏حركة التصدير تتم عبر البور”. المتسبّب في ذلك كلّه قراران قضائيان بالحجز الاحتياطي على إيرادات المرفأ ‏المُحصّلة بالدولار من الوكالات البحرية، قيمة كل منهما مليونا دولار، نتيجة دعاوى تقدّم بها نقيب المحامين ملحم ‏خلف و23 محامياً بالنيابة عن‎ ‎عائلات شهداء انفجار مرفأ بيروت‎. ‎الحجز، وفق عيتاني، طال نحو 85 شركة ‏كبرى كان من المفترض أن تستخدم دولاراتها لدفع متوجبات إدارة المرفأ لشركة‎ BCTC ‎المُشغّلة لمحطة ‏الحاويات والتي تتولّى صيانة الرافعات وضمان حُسن عملها”. والشركة التي دُمّر مستودع قطع الغيار الخاص ‏بها في العنبر 16 جرّاء الانفجار، لم تتمكّن منذ ذلك الوقت من معالجة الخلل الذي أصاب آلاتها. لذلك ساء حال ‏الرافعات بسبب استهلاكها بشكل مُكثّف، وتعطل نصفها. ما تبقى اليوم هو “أربع رافعات تعمل على رصيف واحد ‏ورافعة تكاد لا تعمل على رصيف آخر”، بحسب عيتاني، و”قد جرت العادة أن تنقل هذه الرافعات بين 30 و40 ‏مستوعباً في الساعة الواحدة، فيما تقتصر قدرتها الحالية على مستوعبَين فقط، لأن بعض الرافعات التي تعمل ‏ازدواجياً (حمل مستوعبين في الوقت نفسه)، لم تعُد قادرة على ذلك بسبب تردّي حال الكابلات وحرصاً على ‏سلامة الموظفين”. أثّر ذلك على حركة البواخر. فالباخرة التي كانت تفرغ حمولتها خلال 14 ساعة كحدّ أقصى، ‏تحتاج اليوم إلى أن تبيت أربعة أيام على الرصيف على الأقل. وهذا يعني رسوماً وأكلافاً إضافية على صاحب ‏السفينة، ما دفع ببعض أصحاب السفن إلى التهديد بإيقاف رحلاتهم إلى مرفأ بيروت. ويحذّر عيتاني من أنه “إذا ‏استمرّ الوضع على ما هو عليه، أتوقع حذف لبنان من لائحة المرافئ العالمية السبعة الأولى لا سيما أن إيرادات ‏المرفأ باتت تقتصر على 12 مليار ليرة شهرياً بعد أن كانت 50 ملياراً في زمن الـ1500 ليرة للدولار. اليوم لا ‏تدخل إلى المرفأ إلا البضائع الضرورية وجزء كبير منها صار يذهب إلى مرفأ طرابلس‎”.‎

المرفأ يحتضر‎

مرفأ بيروت ينهار. الخسائر المادّية التي يتكبدّها اليوم تفوق ما تسبب به انفجار نيترات الأمونيوم. صحيح أن ‏الإهمال وسوء الإدارة والفساد أدّت إلى كارثة الرابع من آب، إلّا أن هناك مخاوف جدّية من أنه قد يكون هناك من ‏يتعمّد إفلاس “البور”، ضمن مخطّط قديم – جديد لبيع أصول الدولة، وأولها المرفأ أحد أكثر المرافق العامة ربحية. ‏فبعد فشل خطة المصارف لبيع المرفأ وتقسيم أرباحه عليها عبر وضعها في صندوق “سيادي”، يجري تعطيله ‏عبر حجب الإيرادات عنه وتحويله إلى مجرّد صندوق تعويضات. والصفحة لم تُفتَح بدعوى نقيب المحامين، إنما ‏بقرار المحقق العدلي السابق في جريمة المرفأ، القاضي فادي صوان، بالادّعاء على إدارة واستثمار مرفأ بيروت ‏وتحميلها – كشخص معنويّ – مسؤولية جزائية عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمّالها إضافة إلى ‏المسؤولية عن الإلزامات المدنية‎.

يؤكد وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار، الذي عقد مؤتمراً تحت عنوان “أنقذوا مرفأ بيروت” الأسبوع ‏الماضي، أن القرار غير قانوني، والقاضية نجاح عيتاني اتّخذت “قراراً شعبوياً” بالحجز على أمواله. وشدّد على ‏أن المرفأ مؤسّسة عامة لا يمكن الحجز على أموالها، بدليل أن لوزارة الأشغال سلطة إشراف عليه، وأن تعيين ‏رئيس مجلس إدارته يتمّ عبر قرار من الحكومة وأيّ قرار بصرف الأموال يحتاج إلى موافقة كلٍّ من وزيرَي ‏الأشغال والمال. لذلك “هذه المؤسسة ملك الدولة اللبنانية”، مشيراً إلى أنه وجّه رسالة إلى رؤساء الجمهورية ‏ومجلسَي الوزراء والنواب للتدخّل من دون أن يلقى أي ردّ‎.

الإدارة تتعمّد عدم الصيانة؟‎

للمحامين المتطوعين المتوكلين عن بعض عائلات شهداء انفجار المرفأ وجهة نظر أخرى. يتوجس شكري حداد، ‏أحد هؤلاء، من أن يكون ما يجري ذريعة لعدم القيام بأعمال الصيانة المطلوبة، ومن أن يكون الأمر “مقدمة ‏لمزراب هدر جديد”. فـ “لو جرت صيانة المرفأ بشكل مهني لما حصل ما حصل”. بحسب حداد، كل ما حُجز ‏من أموال حتى اليوم يقارب 2.5 مليون دولار، ويستحيل أن تكون هذه مجموع إيرادات المرفأ خلال أشهر بعد أن ‏كانت عائداته السنوية تصل إلى 170 مليون دولار. يحتاج الأمر إلى مقارنة بسيطة لأرقام مداخيل المرفأ خلال ‏السنة الماضية لمعرفة أن ثمة خطباً ما في ادعاء إدارة المرفأ بإفلاسه”. لذلك، “يصعب التصديق أن الحجز ‏الاحتياطي هو الذي أوقف عمل المرفأ وأثّر على حركته. فعدد الشركات العاملة في المرفأ يفوق الـ 1000بينما ما ‏تم حجزه يعود لنحو 60 شركة فقط”. ويلفت حداد إلى أن “هناك ما يسمى بحق التقاضي، وعلى المسؤولين عن ‏الكارثة أن يفهموا أن للناس حقاً بالتعويض‎”.

لكن لماذا طُلبت التعويضات بالدولار وليس بالعملة الوطنية، ولماذا حُدّد مبلغ مليوني دولار؟ يجيب حداد بأن الرقم ‏‏”حُدّد بعد موافقة القاضية. نحن علينا أن نطلب ويعود لها حق التقدير وقد وافقت على طلبنا‎”.

مشكلة المرفأ اليوم مزدوجة: يفتقد للدولارات الطازجة من جهة، وأمواله محتجزة في مصرف لبنان من جهة ‏أخرى. يؤكد عيتاني أن “طريقة الحجز أثّرت علينا وأوجعتنا لأن 90% من الأموال التي نعوّل عليها ونتقاضاها ‏بالدولار نُحصّلها من الشركات التي تمّ الحجز عليها وإجبارها على الدفع للمحكمة. هذه الشركات كانت قد أعربت ‏لنا عن عدم ممانعتها الدفع بالدولار وقد جرى الاتفاق معها على ذلك، إلا أن قرار الحجز تزامن مع الاتفاق ‏مباشرة. أما الجزء الثاني من الأموال فنتقاضاها بالليرة اللبنانية ونسدد بها مصاريف تشغيلية ورواتب الموظفين، ‏بينما العقد مع الشركة المشغلة لمحطة الحاويات بالدولار”. لا يريد عيتاني التدخل في عمل القضاء، لأن “يمكن ‏يطلع معن حق. ونحن أيضاً لدينا 4 شهداء في الانفجار وجرحى”، لكنه يطلب حلاً، إما بتغيير صيغة الحجز ‏القضائي لتتمكن الإدارة من دفع المترتبات لشركة‎ BCTC ‎أو فتح اعتمادات في مصرف لبنان. وإلا “قد يتوقف ‏عمل المرفأ غداً بما يعنيه ذلك من تأثير على حياة المواطنين والمرضى والأطفال، علماً أن خدمة البريد الإلكتروني ‏وحماية المعلومات توقفت ولم نتمكّن من تجديدها‎”.‎

________________________________________

التصنيف “غير صالح”؟‎

يؤكد مصدر مطلع على عمل المرفأ أن تراجع الحركة بدأ منذ 17 تشرين الأول 2019، واشتدت نتيجة أزمة كورونا ‏العالمية، وتضاعفت مع الحجز على الإيرادات. فبعدما كان يدخل إلى مرفأ بيروت ما لا يقل عن مليون ومئتي ألف ‏مستوعب سنوياً، تراجع العدد حالياً إلى النصف. واليوم، ثمة بواخر تفضل أن تغير وجهتها بعد أن بدأ المرفأ يفتقد ‏للمعايير العالمية النموذجية، ما سيحوّله سريعاً إلى مرفأ مماثل للمرافئ الصغيرة التي لا تدخلها سوى سفن محددة. ‏فللبواخر الكبيرة جداول إبحار يشبه جدول إقلاع الطائرات وهبوطها، لأن الباخرة وحدة استثمارية بحدّ ذاتها ويفترض ‏أن تكون منتجة دائماً خلال وجودها في عرض البحر. التأخير الحاصل في المرفأ، يضاعف رسومها ويؤخر عملها. ‏الخطر اليوم إذا ما استمرت الأزمة، أن تصنّف شركات الملاحة المرفأ على أنه غير صالح للرسو فيه، فيخسر كل ‏خطوطه المباشرة التي كان يتميز بها إلى أوروبا والشرق الأقصى وأفريقيا‎.

عودة إلى العمل “يدوياً‎”

تعاني شركة‎ BCTC ‎من ثلاث مشكلات‎:

‎1- ‎اقتراب توقف الأنظمة الإلكترونية والتشغيلية‎ terminal operating system ‎التي تساعد في تحديد موقع ‏المستوعبات المفترض تفريغها وتلك التي تُحمّل إلى وجهة أخرى، ذلك لأن البرنامج يحتاج إلى دفع ثمن تجديده ‏بالدولار. توقف البرنامج يعني العودة إلى العمل يدوياً‎.

‎2- ‎يمكن للباخرة أو المنشأة المرفئية أن تتعرض لحادثة ولا بدّ من التأمين البحري العالمي عليها. إلا أن التأمين متوقّف ‏لأن الشركة تطالب بمستحقاتها‎

‎3- ‎يعمل في محطة الحاويات أكثر من 600 موظف يطالبون كلهم بتقاضي رواتب بالدولار. وقد بدأ البعض يعتصم ‏ويمتنع من مزاولة عمله، خصوصاً من يسكن في الجنوب والشمال ويتوجه يوميا إلى بيروت للعمل‎.‎

________________________________________

المرفأ بلا كهرباء ولا مولّدات‎

أزمة البنزين انعكست أيضاً على مرفأ بيروت، وبسبب النقص في تأمين هذه المادة تعذّر على الحرس القيام بدوريات ‏على السفن لمراقبة أوقات وصولها ومغادرتها واحتساب الرسوم المترتبة عليها. لذلك بات العاملون يقدّرون ساعات ‏العمل. كذلك يعاني المرفأ من أزمة الكهرباء التي باتت تنقطع لساعات طويلة، ما يعرّض المواد الغذائية والطبية ‏الموجودة داخل البرادات لخطر التلف. فيما لا مازوت يكفي لتشغيل المولدات الأربعة التي يعاني بعضها من أعطال. ‏والمشكلة الأكبر أن تلك المولدات لا يمكنها تشغيل أكثر من رافعتين ما يعني مزيداً من التأخير والخسائر‎.‎

الأخبار

Leave A Reply