ذوالفقار قبيسي – اللواء
حتى في القرارات الاقتصادية يصحُّ المثل القائل «من شبّ على شيء شاب عليه». وغياب العقلية الانتاجية عن كل السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات اللبنانية منذ وحتى قبل الاستقلال، تجلّى بامتياز في قرار إعطاء شرائح من المودعين ٤٠٠ دولار Fresh شهريا و٤٠٠ دولار بالليرة بسعر صرف ١٢٠٠٠ ليرة للدولار، والذي من نتائجه ليس فقط مئات ملايين من الدولارات النقدية ستذهب غالبا لشراء سلع استهلاك مستوردة في بلد حوالي ٩٠% من احتياجاته الأساسية من الخارج بسبب هيمنة العقلية التجارية على الاقتصاد، وإنما من نتائجه أيضا تدفق ترليونات الليرات اللبنانية التي ستعطى لهؤلاء المودعين (مقابل ٥٠% من ودائعهم بالدولار) في بحر النقد المتداول بالعملة المحلية الذي ارتفع في عام واحد من نحو ٤٠٠٠ ترليون الى ٤١٠٠٠ ترليون ليرة لغاية حزيران الماضي. ومتى يضاف إليه ما سوف تدفعه الدولة من الرواتب والأجور وفوائد الدين العام والنفقات الجارية والاستثمارية بالليرة اللبنانية، سوف يتحوّل بحر النقد المتداول عندها الى طوفان يجرف في طريقه الجزء الأكبر مما تبقّى من القوة الشرائية لدى غالبية الشعب اللبناني الغارقة في مستنقع الفقر والبطالة وعلى مشارف العوز والجوع.
في حين انه كان بإمكان العقل التجاري الاستهلاكي الذي يحكم الدولة والمصارف توجيه هذه الأموال سواء ما سيصرف منها بالدولار أم بالليرة في صندوق استثماري خاص في قنوات انتاجية لصالح أصحاب هذه الأموال بما يحمي الاقتصاد من الاستنزاف الاستهلاكي الاستيرادي والعوارض الجانبية التضخمية وتؤمّن في الوقت نفسه للمودعين عائدات يفترض أن تفوق ما سيحصلون عليه من هذا القرار المرتجل الذي تتصوّر المصارف عن سابق تصوّر خاطئ انها «تتشاطر» به على صغار المودعين في حين انه على المدى المتوسط والبعيد لا يلحق الضرر بهم فقط وإنما بالمصارف نفسها على نموذج المثل الشعبي القائل: «من حفر حفرة لأخيه…». وحفرة هذه المرة يقع فيها الاثنان: هو وأخوه معا!
ومن البدائل أيضاً
كما انه من البدائل المجدية في تجنّب هذه الحفرة بل الهوة العميقة، فقد كان أحدها في الولايات المتحدة عبر مشروع استثمار جزء محدود من الودائع في مصرف وطني متخصص في تطوير وتحديث البنية التحتية الأميركية يملكه المودعون ويديره مجلس إدارة منتخب من جمعيتهم العمومية ويضم مهندسين وخبراء في مختلف المهن الى كفاءات مصرفية متخصصة تدير استثمار الودائع في مشاريع النقل والمياه والمرافئ والمطارات والطرق والأوتوسترادات وتؤمّن عشرات آلاف فرص العمل الجديدة وتعطي المودعين عائدات تدريجية، لا سيما ان المشروع الأميركي أعطى المصرف صلاحية إصدار سندات على مدد تصل في حدّها الأقصى الى ٥٠ عاما.
وفي لبنان، ألم يكن من الأفضل بدل ضخ جزء من ودائع دولارات في قنوات استهلاكية وليرات بعوارض جانبية تضخمية، استعمال هذا الجزء الباقي من الودائع الأجنبية النقدية في مشاريع مجزية ذات جدوى في إصلاح وتطوير البنية التحتية، بدءا من إنقاذ بحر لبنان «السياحي» وأرضه من النفايات، الى الخلاص من مرض الكهرباء المزمن ومياه الشفة والزراعة الملوثة وشبكة الاتصالات المتعثرة ودعم وتحديث مباني الجامعات والمدارس الرسمية المترهلة وإدخال التكنولوجيا الى حوكمة الدولة الهرمة في بنيتها المتهاوية على ذاتها وعلى مواطنيها.