خالد ابوشقرا – نداء
“يسيل اللعاب” على احتياطي الذهب، كلما اقترب “حامض” الأزمة أكثر من “فم” انعدام الحل. إلا أن “خوض عباب” هذه الثروة الخالصة التي رفعت لبنان إلى المرتبة الثانية عربياً والسابعة عشرة عالمياً بين الدول الأكثر حيازة للمعدن النفيس، تشبه رحلة في المجهول. ومن غير المستبعد أن نستفيق قريباً على “كابوس” العجز عن التصرف بالذهب، بعدما “نمنا” طويلاً على “حرير” تحويله إلى الخلاص من كل مشاكلنا.
القيمة المعنوية لـ 286.8 طناً من الذهب قد تكون في ظل هذه الأزمة أكبر بكثير من القيمة الفعلية الناتجة عن بيع الذهب.
فبحسب الإحصاءات يملك لبنان نحو 9 ملايين و221 ألف أونصة من الذهب، ثلثها موجود في نيويورك، والثلثان في مصرف لبنان. ما يعني نظرياً أن ما يمكن التصرف به هو 6 ملايين و147 ألفاً و332 أونصة فقط، بقيمة تقدر بـ 11.073 مليار دولار (سعر الأونصة 1801.1 دولار). فيما تشير تجارب مختلف البلدان إلى صعوبة، أو حتى استحالة، الإستفادة من الكمية الموجودة في الولايات المتحدة والمقدرة بـ 3.073 ملايين أونصة من الذهب. وعليه، يجب إزالة نحو 5.5 مليارات دولار من حسابات الذهب والتركيز على 11.075 مليار دولار فقط.
معوقات تسييل الذهب
الإستفادة من احتياطي الذهب الموجود في حال الإضطرار إلى استخدامه ستواجه بحسب الخبراء ثلاثة معوقات رئيسية:
الأول، إئتماني ويتعلق بعدم وجود أي التزام أو قيد أو رهن على الذهب. وعلى الرغم من إشارة حاكم مصرف لبنان في نهاية العام الماضي إلى أن “الذهب حرّ من أي التزام أو رهن سواء في لبنان أو في الخارج”، وتكراره النفي نفسه في الأمس القريب، برزت أصوات مشككة تطالب الحاكم والجهات الرقابية الإفادة خطياً بسلامة أوضاع الذهب. فانطلاقاً من المثل القائل “ليش عم تنفخ على اللبن؟ لأن الحليب كاويني”، يعتقد الكثيرون بان إمكانية التصرف بالذهب خلال الفترة الماضية محتملة، ولو أنه هناك قانون يمنع المس به. فكما جرى خرق قانون النقد والتسليف لجهة إقراض الدولة، واستئثار المركزي بودائع البنوك وتوظيفها في تمويل الدولة، وليلرة الودائع على سعر صرف مختلق، والتطمين دائماً بأن “الليرة بخير”… فمن الممكن أن يكون قد تم رهن الذهب أو التصرف به. وبحسب قول المدير العام السابق للإستثمار والصيانة في وزارة الطاقة غسان بيضون “لنقتنع بسلامة أوضاع الذهب في خزائن المركزي والخارج، على الحاكم الإفادة خطياً بعدم وجود أو إنشاء أي إلتزام أو قيد أو رهن لصالح أي جهة خارجية أو داخلية، يمكن أن يمنع أو يحد بشكل مباشر أو غير مباشر من حرية الدولة المطلقة بالتصرف به، أو استعادته في أي وقت متى عدل قانون حماية الذهب”. وفي المقابل يرى بيضون ان “على مفوض مراقبة حسابات مصرف لبنان تأكيد قيامه بالتحقق فعلاً من وجود الذهب، ومعاينته وجرده وتعداد كميته وتأكيد قيمته المدرجة في الميزانية وتبيان حالته ومواصفاته، وإبداء رأيه بكفاية إجراءات الأمان المعتمدة لضمان حمايته وعدم تبديله”.
تأمين الشراة
الثاني، قانوني ويتعلق بامكانية وجود شراة على الساحة الدولية، وضمان عدم وجود قيود على تسييل الذهب والحجز عليه لمصلحة الدائنين الأجانب المقدرة حصتهم بحوالى 15 مليار دولار، تشكل 50 في المئة من سندات اليوروبوندز. فـ”بناء على صدور أكثر من قرار عن المحاكم الأميركية باعتبار الذهب العائد للمصارف المركزية لا يمكن التنفيذ عليه لمصلحة الدائنين، وبأن لبنان ومصرفه المركزي حران من أي عقوبات شخصية أو عامة، فانه لا قيود تمنع التصرف بالذهب سواء كان في لبنان أو الخارج”، بحسب المحامي مجد حرب، و”على الرغم من الجدال القائم حول إمكانية أو عدم إمكانية التنفيذ على الذهب، فان عدم وجود وحدة حال بين المصرف المركزي والدولة تحمي الذهب، كما تحمي في الوقت نفسه الأصول والشركات التي تعود للمركزي من وضع اليد عليها استيفاء للديون”. إلا أن ضمان عدم مصادرة أو وضع اليد على الحوالة النقدية التي ستتأتى من بيع الذهب في الخارج، “تبقى موضوعاً خاصاً للعديد من الإجتهادات، ولا يمكن ضمان سلامتها بنسبة 100 في المئة”، من وجهة نظر حرب، و”هي تتعلق بسرعة تحرك الدائنين وقدراتهم، وبت المحاكم بمصادرة أو الحجز على الأموال النقدية. إنطلاقاً من هنا فان إمكانية الحجز من عدمه تبقى رهناً بالآلية التي يجري البيع على أساسها والجهة الشارية”.
البيع لا يفيد
الثالثة والأهم، تقنية وتتعلق بانعدام قدرة لبنان على رهن الذهب واضطراره في حال أراد الإستفادة منه إلى بيعه.
فبحسب حرب “لا يوجد من أحد عاقل ممكن أن يقرض دولة مصنفة من الوكالات الدولية متعثرة ومتوقفة عن تسديد ديونها وواقعة بأزمة نقدية… حتى لو رهنت كل ما تملك”. ولو سلمنا جدلاً بامكانية إقراضها، فالفوائد ستكون مرتفعة جداً.
من هنا فلا طريقة للإستفادة من الذهب إلا بيعه، و”هذه العملية ستكون إنتحاراً، في ظل تغييب الإصلاحات واستمرار حكم “ملوك” المماطلة”، بحسب حرب، “إذ إنه كلما تأخرنا بالإصلاحات وبدء تطبيق خطة الإنقاذ، كلما تغيرت المعادلة نحو الأسوأ”، فاستنفدنا منذ بداية الأزمة أموال المودعين، ومن بعدها بدأنا باستنزاف الإحتياطيات والتوظيفات الإلزامية، وسنصل في وقت ليس ببعيد إلى حتمية التصرف بالذهب من دون أن نشهد أي حل للأزمة الإقتصادية والنقدية. من هنا فانه “قبل وجود حكومة فاعلة وقادرة على عكس المطروحة حالياً، ووضع خطة إقتصادية واضحة وشفافة وعادلة، فان بيع الذهب سيكون خسارة ستلحق بكل الخسائر السابقة من دون أن تترك أي أثر جدي في الوضع الإقتصادي”، من وجهة نظر حرب.
استعملنا 1.4 مرة قيمة الذهب
وفي سياق متصل تثبت الأرقام أن موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية انخفضت من نحو 38 مليار دولار في أوائل العام 2019 إلى حدود 15 مليار دولار في أيار العام الحالي.
واذا استثنينا المبلغ الذي ذهب على الدعم والمقــدر بحده الأعـــلى بين 8 و10 مليارات دولار، فيكون لبنان قد صرف في غضون أقل من عامين ما يناهز 15 مليار دولار، تشكل 1.4 مرة ما يملكه لبنان من احتياطي ذهبي في الداخل.
وعليه فان تسييل كامل أصول الذهب التي تكفي عدة أشهر، ستخلق، بحسب الخبراء، آثاراً تضخمية نتيجة فقدان الثقة كلياً بالليرة اللبنانية، وإمكانية ارتفاع سعر الصرف إلى معدلات خيالية بعد خسارة العملة الوطنية التغطيتين النقدية والذهبية.
في الوقت الذي يظن فيه البعض أن تسييل احتياطي الذهب يشبه بيع المصاغ للجوهرجي، تثبت التجارب أن العملية أعقد من هذا بكثير، خصوصاً إذا كانت الدولة فاشلة و”عيون” المجتمع الدولي “مفتّحة” عليها. الأمر الذي يثير القلق من أن يكون الذهب أصلاً لا يستفاد منه بالطريقة المرجوة ويؤخذ بالشعبوية، كاستيراد النفط من إيران والدفع بالليرة اللبنانية… والحلان يقتلان “الناطور” ولا يطعمان لبنان “عنباً”.