تقول الكاتبة والصحافية الراحلة مي منسي في كتابها “حين يشق الفجر قميصه” إنها “على يقين أن الموسيقى هي رديف الفكر الإنساني، فمهما فعلت فيكم من حنين وأحاسيس قوية، اعلموا أنها ليست سحرًا أو تنويمًا مغناطيسيًا يضل الانسان في متاهاته، بل هي فكر وتأمُّل”. هكذا كان الحفل الموسيقي أول من أمس الأحد على #مسرح مونو – الأشرفية، والذي تحوّل وقفة تأمّل وفكر، قدمها باحتراف لافت متخرجو مدرسة العمل للأمل للموسيقى، وهي جمعية عالمية بلجيكية الجذور لها امتداد الى لبنان والأردن لدفع شباب طموح أرهقتهم الأحكام المسبقة بأنهم لاجئون فلسطينيون وسوريون في وطننا الى الإبداع في عزف وغناء راق جداً يُحفظ في الذاكرة الجماعية. هذا الحفل حمل عنوان “إنت والغنية”، وهو فصول من أغنيات عدة منها من التراث السوري من خلال أغنية “ميلي ما مال الهوى”، أو التراث السرياني من خلال أغنية ” شوبحو”، وصولاً الى التراث الفُراتي بأغنية “ع المايا” مروراً بالتراث الحوراني بكلمات أغنية “نزلنا على البستان”، والتي أدى بعضها كل من رغد إبرهيم وحسن الجبر، اللذين يمكنهما في حال حظيا بفرصة أخرى، أن يثبتا حضوراً مميزاً في الساحة الغنائية الشبابية، ولاسيما أن لكل منهما صوتا جميلا جداً قابلا للتألق في الأغنية الأصيلة. وسُجلت أيضاً في هذا الريبرتوار التراثي نوتات موسيقية مع كلمات سماعي كرد من ألحان وانيس وارطانيان، وهي محاولة ناجحة جداً لإيقاظ الذاكرة الثقافية والمحافظة عليها عند الجيل الشاب، إضافة الى أنها محاولة لترسيخ هذه التقاليد التراثية المهددة بالاضمحلال في مجتمعاتنا في ظل سياسات الأمر الواقع المفروضة علينا. ما الغاية من تغطية هذا الحفل الموسيقي المجاني، الذي جذب حضوراً شبابياً ملأ الصالة بالفرح والغناء والتفاعل مع الفنانة الموسيقية القديرة #أميمة الخليل اللبنانية الجذور والعربية الهوى في أدائها، الذي يحبس الأنفاس بمجموعة أغنيات من ألحان مارسيل خليفة؟ العلامة الفارقة في هذا الحفل كانت حضور المؤلف الموسيقي وعازف الساكسوفون #باسل رجوب السوري الجنسية، المقيم في سويسرا، خصيصاً للعزف على خشبة مسرح مونو بموسيقى شرقية بالساكسوفون الغربي. وكان لافتاً أيضاً حضور الموسيقي وعازف القانون السوري فراس شارستان، الذي جاء من السويد للمشاركة في هذا الحفل مساء كل سبت وأحد. شارستان، العبقري في عزف القانون ولا أروع. تقاسيمه على العود تحملك الى عالم آخر. سماعه التصفيق الحار من الجمهور، يجعله في نصف انحناءة لرد تحية له. والأهم أيضاً هو أن مديرة الجمعية بسمة الحسيني أثنت في اتصال مع “النهار” على جهود الخليل في سعيها لظهور خاص للفنان الأصم بيار جعجع ومجموعة فريق الصم للتعبير و#لغة الإشارة في الحفل، وهي مقدمة للدمج بين كل فئات المجتمع. بيار جعجع موهبة واعدة جداً، وهو بعد تألقه في مهرجانات بعلبك الدولية، برز كشاب متصالح مع ذاته في الحفل الموسيقي من خلال نقل الكلمة الترحيبية لخليل بلغة الإشارة. ولا بد من التنويه بهذه الخطوة، التي تفتح صفحة مشعة جداً في مساواة اللبنانيين بحق المعرفة وأهمية الإندماج بين أبناء المجتمع الواحد. برز أيضاً حضور جعجع والفرقة من خلال مشاركته والمجموعة في شرح عبر لغة الإشارات الخاصة بالصم أغنية “عصفور”، كلمات نبيل هادي وألحان مارسيل خليفة. صوت أميمة الخليل نادى بالحرية، وانعكس ذلك بحركة يد بيار جعجع، الذي حاكى العصفور هو والمجموعة في شرح عبر لغة الإشارات لمعاني الأغنية وأبعادها، أي المطالبة بالحرية، برفض الأسر، بالجمال، بالحب … أما أميمة الخليل فوجهها الإنساني كان بارزاً في صوتها الداعي الى المحبة والتضامن والصمود…هي وجه بارز من وجوه الرحمة المضادة للقسوة، وهي تجرد الإنسان من كل معاني الإنسانية ومن كل معاني الوجود… أداؤها أول من أمس أعطى لوجودنا كل المعنى، معنى لعنوان الحفل “إنت والغنية”، وهي أغنية من كلمات نقولا دانيال وألحان مارسيل خليفة، وقد اختصرت فيها الخليل سر النغمة وإيقاعها في نفوسنا. وبأدائها أغنية “نامي يا زغيري” من كلمات بطرس روحانا وألحان خليفة، أوقفت معها الزمان وجعلت الجميع يستذكرون عبر كلماتها الاستقرار الغائب والمغيب عند الأطفال، والشباب ونحن الراشدين في سقف بيت لم يعد موجوداً لكثيرين منا وسط خوف يتوغل فينا من هاجس الترحال المفروض علينا…
روزيت فاضل – النهار