خضر حسان – المدن
تُفاخر المنظومة الحاكمة بشقّيها السياسي والمصرفي، بأن نموذجها الاقتصادي وسياساتها النقدية قادرة على النهوض بالبلد وتجنّب الأزمات. ودليلها كان لعقودٍ هو قوة القطاع المصرفي وحجم الأموال فيه.
ومع بروز بوادر الانهيار، رَفَضَت المنظومة الاعتراف بفشلها وتدارك الوضع. بل أصرّت على أن ما يحصل هو ظرف طارىء سرعان ما يمكن تجاوزه. وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يشيد بالقطاع المصرفي، معتبرًا أن المصارف بعيدة عن التأثّر بما يحصل. وطَمأن سلامة إلى عدم التلاعب بسعر صرف الليرة وانفلات سعر الدولار، داعمًا طمأنينته بتداول 95 بالمئة من الدولار عبر المصارف وليس عبر شركات تحويل الأموال أو أي قنوات أخرى.
تراجع التحويلات
تساوى لبنان مع جيبوتي والعراق والأردن في انخفاض تحويلات المغتربين عبر المصارف بأكثر من 10 بالمئة، وفق الأرقام المرصودة في تقارير البنك الدولي للعام 2020، وقد استند إليها اتحاد المصارف العربية في تقريره الأخير حول تحويلات المغتربين عبر المصارف في الدول العربية.
وتتعدّد أسباب الانخفاض من بلد لآخر. وفي لبنان، يلعب غياب الثقة بالمصارف، الدور الأبرز في تجنّب التحويل عبر القطاع، والاعتماد على شركات التحويل الرقمية، نظرًا إلى السرعة والأمان والوفر، مقارنة مع كلفة التحويل عبر المصارف. وانعدام الثقة سببه احتجاز المصارف لأموال المودعين بلا أي سند قانوني يضمن سلامة الودائع وإمكانية الحصول عليها مستقبلًا. فضلًا عن الاجراءات التعسفية التي تطبّقها المصارف على المستفيدين ممّا تبقّى من تحويلات آلية عبرها، بدءًا من الكلفة وليس انتهاءً بفرض سقوف على سحب التحويلات أو المماطلة في دفعها، وإن جاءت تحت شعار الدولار الطازج أو “الفريش”. فبعض المصارف تعطي التحويلات على دفعات، متذرّعة بشتى الأعذار، ومنها الاجراءات الإدارية الروتينية.
في المحصّلة، تقلّصت التحويلات “بنحو 60 إلى 70 بالمئة مقارنة مع الأرقام العائدة للعام 2018، أي قبل تفاقم الأزمة في العام 2019″، وفق ما تؤكده مصادر في مصرف لبنان، والتي تشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن “ارتفاع كلفة التحويل عبر المصارف على ضوء الأزمة التي يعاني منها اللبنانيون، ساهم في تراجع التحويلات عبرها. والكلفة تلك، تعود إلى الدائرة الإلزامية لحركة الأموال في المصارف. فإذا أراد أحدهم تحويل مبلغ من إحدى الدول الخليجية على سبيل المثال، تُسَجَّل عملية التحويل في المصرف هناك، وتُسَجَّل في حساب المصرف في نيويورك، وتُسَجَّل في حساب المصرف المُرسَل إليه في لبنان، وهذه الرحلة تُرَتِّب أكلافًا. ومع تفاقم الأزمة، لم تعد المصارف اللبنانية قادرة على تأمين المبالغ لزبائنها نقدًا، ما يضطرها لشراء الدولار من السوق، وتكبّدها أكلافًا إضافية تُسَجَّل على كل عملية تحويل. وتلك الأكلاف تنعكس على المغترب، الذي يفضّل توفير الوقت والمال والتحويل عبر الشركات تحويل الأموال”.
عدنا لمطلع التسعينيات
الأرقام والمؤشرات غير مشجّعة أبدًا. فـ”السيولة النقدية المتوفرة على صناديق المصارف قبل الأزمة، وصلت إلى ما بين 8 و10 مليون دولار يوميًا، فيما اليوم قد لا يتوفّر أكثر من 2000 دولار”. تقول المصادر، وتضيف أن “المصارف كانت تعبّىء أموالها بأكياس الشوالات”، كدليل على وفرة سيولتها.
تراجع السيولة والتحويلات وإمكانيات المصارف، أعاد لبنان إلى بداية التسعينيات حين توقّفت الحرب الأهلية. ويومها “كان الدخل المحلّي نحو 8 مليارات دولار، وارتفع بعد نحو 3 عقود إلى نحو 55 مليار دولار. واليوم عدنا إلى نقطة البداية. وما يزيد الوضع سوءًا هو انخفاض نفقات الدولة من 15 مليار دولار سنويَا إلى نحو 200 مليون دولار”.
وتلك المقارنة تكتسب سلبيّة إضافية تبعًا لاختلاف مسار البلاد. فبعد انتهاء الحرب كان المسار إيجابيًا ويتّجه نحو بناء الدولة، فيما اليوم يتجه انحدارًا نحو الانهيار وهدم الدولة. بعد الحرب كان المجتمع الدولي يساند لبنان، واللبنانيون يحوّلون أموالهم إلى الداخل، والمستثمرون مهتمّون بتوظيف أموالهم في السوق، فيما اليوم لا أحد يريد استثمار دولار واحد، والتحاويل تراجعت، والمجتمع الدولي غير آبه بنا، طالما أن السلطة السياسية لا تريد تنفيذ الإصلاحات.