الكاتب – نصري الصايغ
هل لبنان قابل للحياة، مرة أخرى؟ تجربة المائة عام الماضية أسفرت عن نتيجة مبرمة: “لبنان دولة فاشلة”. البراهين كثيرة، متتالية، متراكمة، وأوضحها ما وصل إليه لبنان راهناً. إنه موجود فقط على حافة موته.
السؤال التأسيسي يعود إلى “تركيب لبنان” هذا. جغرافيته ولدت بعد سايكس بيكو. لبنان اللبناني، هو لبنان القائمقاميتين والمتصرفية. سكانه: أقليتان، مارونية (مسيحية) ودرزية. ولكل طائفة حاميها. فرنسا الأم الحنون للموارنة، الدروز تحت عباءة بريطانيا.. انتصر الحليفان البريطاني والفرنسي، ورسما خريطة هذه الدول الناشئة، في بلاد الشام والخليج العربي وسواها من البلدان. يومها، ولدت جغرافية لبنان الراهن بعدما أضيفت إليه مناطق كانت تابعة لولايات متقاربة. ضُمت الأرض ومن عليها. صار لبنان مجمعاً لطوائف. صار لكل طائفة تاريخها وطموحها وأهواؤها وانتماءاتها.
أخرست فرنسا بالقوة من يناوئها. ولد لبنان الكبير، واحتضن ما كان يفترض أنهم لبنانيون. لم يكونوا كذلك كانوا طوائف ومللاً ونحلاً، متساكنة على غيرة وعداوة ونكاية. ظلت الأقليات أقليات حتى الأكثرية المسيحية تحوّلت وسط تدفق المناطق المضافة إلى أقلية. صار لبنان متحفاً للتناقضات والأقليات. عملت فرنسا على نقل ما تعرفه من الغرب إلى المنطقة. إنشاء دولة يعني إنشاء دستور وقوانين وإدارات وانتقال من اللا دولة إلى الدولة. فرنسا في ذلك الدستور لا يشكو إلا قليلاً. دستور لا بأس به. إتجاهه قيام دولة مدنية لا طائفية بالتدرج. لذلك نصت المادة 95 على التوزيع الطائفي مؤقتاً.. إنما حصلت معجزة جديدة. الدستور غير كاف. نصوصه حبر على ورق. لا بد من شرعية فوق شرعية الدستور. ابتدعوا “الميثاق الوطني”. الذي يتقدم على الدستور. والميثاق الوطني، خرافة غير قابلة للتطبيق. فمتى كان التطبيق سليماً. متى كان لبنان خارج: لا شرق ولا غرب. متى كان لبنان ذا وجه عربي؟ لقد كان أشبه بوجوه البربارة سياسياً. ولا مرة كان لبنان السياسي عربياً أو لا عربياً. لمَ؟ ما هذه البدعة المستحيلة حتى اللحظة؟ الميثاقية. التوزيع الطائفي.
كان الفرنسيون يتوقعون أن تتطور الأمور وفق الخريطة التالية:
الإنتقال التدريجي من الطائفية السياسية إلى الدولة المدنية، كما نص الدستور. حدث العكس. تطور لبنان بالإتجاه المضاد. من الدولة المدنية المكتوبة، إلى الدولة الطائفية. أي تطييف الدولة والمجتمع والمؤسسات.
وكان ما كان، من زمان، حتى الآن. كل عهد من عهود لبنان كان طائفياً. العهد الذي يلي يكون أكثر طائفية وانقساماً وتأزماً. ظلت الأقليات غير المسيحية مغبونة.
دولة لبنان، بعد الإستقلال تضم بيروت والجبل. المناطق الأخرى الملحقة لم يلحقها لبنان بالإهتمام. ثم، وهذا هو الأهم، لم يستطع لبنان، ولا مرة في تاريخه، أن يكون إنتماء شعبه له. ليس في لبنان لبنانيون. هناك مسيحيون يميلون في أكثريتهم للغرب. سنة يميلون للعروبة والقومية العربية والدول الإسلامية، والحركات الفلسطينية. الدروز انتقلوا من الحماية البريطانية والفرنسية إلى الحضن العربي وإلى حركات التغيير التي عصفت في المنطقة. ظلوا دروزاً بهويات سياسية مختلفة. الشيعة، كانوا في الأطراف المهملة. محرومون عن جد. عوقبوا عقاباً دامياً ومميتاً، لأنهم قاوموا انضمامهم إلى لبنان، كانوا إلى جانب فيصل. ظُلموا فرنسياً، ثم ظُلموا لبنانياً. انتظمت أجيالهم الشابة في منظمات عروبية وقومية ويسارية. صاروا ثواراً خارج طائفتهم. مع إنطلاقة موسى الصدر، فرض الشيعة أنفسهم كطائفة، فأنعمت عليهم الدولة، بعد عناد وصراع، ببعض المواقع. وهكذا انتظم لبنان.
هل هذا “البازل” اللبناني – الإقليمي – الدولي، قادر على إنشاء دولة؟ ظنوا ذلك. لم ينشئوا دولة أبداً. أنشأوا مزرعة موزعة على الطوائف وزعاماتها. السلم العربي يوفر للبنانيين الطائفيين فترة مصالحة، لا تغيب عنها الظنون والشكوك. كل فريق يشك بخيانة شريكه. لم تبارح الدول الخارجية لبنان طوال تاريخه.
هل نعد الأزمات والنكبات والحروب الطائفية؟ ذاكرة لبنان معبأة بالمذابح والمجازر والتهجير. وحوش ضد وحوش. خمسة عشر عاماً من القتل والقتل والقتل. على مرأى حلفائهم في الخارج وبتأييد وتسليح منهم. يومها غاب لبنان كله، وحضرت الميليشيات الطائفية، مع حلفائها العرب وغير العرب.
لا. لا يمكن بناء دولة واحدة، لطوائف، تعتبر كل واحدة منها، أنها دولة صغيرة متماسكة، في دولة كبيرة مفتتة. دولة الطائفة أقوى بكثير من دولة لبنان ودستوره وقوانينه ومؤسساته.. لذلك، عندما نقول أن لبنان ليس للبنانيين، بل للطائفيين. هكذا ولد، وهكذا كبر، وهكذا تدمر.. لا أمل بدولة مبنية على أقليات تتشارك في ما بينها في قيادة الدولة في كل الإتجاهات المتعارضة.
دولة كهذه، لا مساءلة فيها ولا محاسبة أبداً. كذبة صناديق الإقتراع، للأسف، يصدقها اللبنانيون.. والله عيب.
لبنان في مائة عام كان ضحية مثالية للنظام الطائفي الشامل والتام. نظام لا يعترف إلا شكلاً بالدستور والقوانين والمؤسسات. نظام لا يقيم وزناً إلا للديكتاتوريات الطائفية التي تجمع على ممارستها الأقليات، وفق تراتب قواها.
العدو الأول للبنان، هو الطائفية. وبالتحديد هم القوى الطائفية وعسكرها المدني والإداري والأمني والمالي. هذا العدو قوي ومستقوي بغيره دائماً، وهو يربح كل المعارك. بعد كل معركة طائفية يزداد منسوب الطوائفيات. وبالمناسبة، الطائفية تمارس السياسة والتجارة والمال والفساد الذي لا دين يعلو عليه أبداً.
نعود إلى السؤال: هل لبنان قابل للحياة مرة أخرى؟
الجواب ينقلنا إلى منطقة الرجاء وليس إلى واقع التوقع. المتوقع أن يبقى لبنان في نفقه المسدود. أما إذا كان للبنان حياة، فلا يمكن أن نصل إلى دولة، إلا إذا كانت مسيرته عكس سيرته في خلال المائة عام المنصرمة. حيث لم نعرف حياة سياسية، بل عرفنا مماحكة سياسية، وحيوية طائفية فائقة.
إن لبنان الثاني لا يمكن أن يكون إلا ديموقراطياً، وديموقراطيته، أساسها المواطنة، التي ترى إلى الطائفية أنها إثم سياسي فادح. لبنان الثاني عماده الحرية، وتطبيق القوانين وإعلاء المساءلة والمحاسبة، وتنفيذ استقلالية القضاء، إضافة إلى إستعادة نظام الإنتاج، لا تسهيل الإستيراد للسلع السهلة والأرباح الهائلة. بلد جديد يقوم على نهج تربوي جديد، في كتاب مدني موحد. مدارسنا اليوم ترسانات تخرّج متطرفين طائفيين. والأهم من كل ذلك، معاقبة كل نزوع طائفي سياسي. على أن تكتفي الطائفية بواجباتها الدينية أولاً وأخيراً. “أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. يبقى أن يتفق أهل السياسة على نظام اقتصادي عادل ومنتج ومبدع، إضافة إلى تقليل الفروقات الطبقية.
من يتبنى هذا المنطق وهذه الخريطة السهلة؟
كثيرون.
من منا مستعد لممارسة هذا الفعل بالتضامن والتكافل والتكتل؟
لا أعرف.
لذلك، أُرجِح أن يكون لبنان الثاني نسخة فاشلة لدولة فاشلة لشعب فاشل.
وعليه، لا لبنان آخر في ما بعد. بكل حزن وأسف.